وفي ذلك (١) إيماء إلى أنها ستشدِّد العقوبةَ عليه أكثرَ مما توعَّدت به أولًا، فهناك أنذرته بسجن قد يكون على أخفِّ صورة، وأقلِّها وعذاب بأهون أنواعه، وألطفها كحَبْسٍ في حجرة الدار، أو لَطْمة على خَدَّيْهِ تُزِيلُ منها الاحمرار. وهنا أَنْذرَتْهُ بسجن مؤكَّد، وذل وصغار تأباه الأنفسُ الكريمةُ كنفس يوسف عليه السلام، فأشق الأعمال أهْوَنُ على كِرامِ الناس من الهوانِ والصَّغَارِ.
وفي هذا التهديد ليُوسُفَ من ثقتها بسلطانها على زوجها مع علمه بأمرها، واستعظامه لكيدها، ما كان مِنْ حقه أن يجعلَ يُوسُفَ يَخَافُ من تنفيذ إرادتها، ويثبتَ لديه عَدَم غيرته عليها، كما هو الحالُ لدى كثير من العظماء المُتْرفينَ العاجزين عن إحصان أزواجهم، والمحرومين من نِعْمَةِ الأولاد منهن، ورُبَّما تكون مُبَالَغَتُها في تهديده بمحضر من هؤلاء النسوة لما في قَلْبها منه من غل، وجَوى بظهور كذبها، وصدقه، وتصميمِه على عِصْيَان أمرها, ولتُظْهِرَ لِيُوسُفَ أنها ليسَت في أمرها على خِيفةٍ من أحد، فتضيِّقَ عليه، ولينصَحْنَه في موافقتها، ويرشِدنَه إلى الخلاص من عذابها.
٣٣ - فلمَّا سمع يوسف مقالَتَها هذه، وعَرَف أنها عُزْمَةٌ منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز، قال مناجيًا لربه سبحانه وتعالى:{رَبِّ السِّجْنُ}؛ أي: قال: يا ربي أنت العلم بالسر، والنجوى، والقدير، على كشف تلك البلوى؛ إنَّ دُخُولَ السجن الذي هدَّدَتْ به، والمكث في بيئة المجرمين على شَظْفِ العيش، ورقة الحال {أَحَبُّ إِلَيّ}؛ أي: أحبُّ عندي {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}؛ أي: مما تدعو إليه أولئك النسوة في مُؤَأتَاتِها التي تؤدِّي إلى الشقاءِ، والعذاب الأليم؛ أي: من الاستمتاع بها في ترف القصور والاشتغال بحبها عن حبِّك، وبقُرْبها عن قربك. وفي قوله:{مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} إيماءٌ إلى أنهن خوفنه مُخَالفَتَها، وزيَّنَ له مطاوعتَها، فقلنَ لهُ: أطع مولاتَك، وأنِلها ما تهوَى لتكفى شرَّها، وتأمَنَ عقوبتَها. إن قلتَ هو مجاب الدعوة فلِمَ طَلَب النجاة بالسِّجْنِ ولم