وليس هذا المذكور هنا تمام دعائه عليه السلام، بل من جملته قوله:{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، فاكتفي هاهنا عن ذكره، بما في سورة الأنبياء، كما ترك هناك ذكر الشيطان، ثقة بما ذكره هنا، فإن قلت: لا قدرة للشيطان البتة على إيقاع الناس في الأمراض، والأسقام، لأنه لو قدر على ذلك لسعى في إهلاك الأنبياء، والأولياء، والعلماء، والصالحين، فهو لا يقدر أن يضر أحدًا إلا بطريق إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، فما معنى إسناد المس إليه؟
قلت: إن الذي أصابه، لم يصبه إلا من الله تعالى، إلا أنه أسنده إلى الشيطان، لسؤال الشيطان منه تعالى، أن يمسه الله تعالى بذلك الضر، امتحانا لصبره، ففي إسناده إليه دون الله تعالى، مراعاة للأدب كما مر آنفًا، وقيل: إنه لما عمل بوسوسته، عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب، فنسبه إليه، فقد قيل: إنه أعجب بكثرة ماله، وقيل: استغاثه مظلوم فلم يغثه، وقيل: إنه قال ذلك؛ لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه، فرفضوه، وأخرجوه من ديارهم، وقيل المراد به: ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه، من تحسين الجزع، وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك. والله أعلم.
روي: أن أيوب عليه السلام، كان له أموال كثيرة من صنوف مختلفة، وهو مع ذلك كله، كان مواظبا على طاعة الله، محسنا للفقراء واليتامى، وأرباب الحاجات، فحسده إبليس لذلك، وقال: إنه يذهب بالدنيا والآخرة، فقال: إلهي عبدك أيوب قد أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع النعمة والعافية لتغير عن حاله، فقال تعالى: إني أعلم منه أن يعبدني ويحمدني على كل حال، فقال إبليس: يا رب سلطني عليه، وعلى أولاده وأمواله.
٤٢ - وقوله:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} مقول لقول محذوف، معطوف على مقدر تقديره: واذكر يا محمد، إذ نادى أيوب ربه فاستجبنا له، وقلنا له على لسان جبرائيل، حين انقضاء مدة بلائه: اركض، واضرب برجلك وقدمك الأرض، وهي أرض الجابية بلد في الشام من أقطاع أبي تمام، فضربها، فنبعت عين ماء، فقلنا له:{هَذَا} الماء النابع {مُغْتَسَلٌ}؛ أي: ماء يغتسل به {بارِدٌ} فاغتسل به،