ولما كان التوكل أمرًا واحدًا مستمرًا، والإنابة متعددة، متجددة بحسب تجدد موادها، أوثر في الأول صيغة الماضي، وفي الثاني صيغة المضارع، وفيه إشارة إلى أنه إذا اشتغلت قلوبكم بحديث نفوسكم لا تدرون، أبالسعادة جرى حكمكم، أم بالشقاوة مضى اسمكم، فَكِلوا الأمر فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله، دون التفكر فيما ليس لعقولكم سبيل إلى معرفته وعلمه من عواقبكم.
والمعنى: أي ذلكم الموصوف بهذه الصفات، من الإحياء والإماتة والحكم بين المختلفين، هو ربي وحده، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، عليه توكلت في دفع كيد الأعداء. وفي جميع شؤوني، وإليه أرجع في كل المهمات، وإليه أتوب من الذنوب.
وفي هذا تعريض لهم، بأن ما هم عليه من اتخاذ غير الله وليًا لا يجديهم نفعًا، ولا يدفع عنهم ضرًا، فالأجدر بهم أن يقلعوا عنه، إذ من شأن العاقل أن لا يفعل إلا ما يفيده في دينه أو دنياه.
١١ - ثم بين الأسباب، التي تحمله على أن يلتجىء إليه، وتجعله الحقيق بذلك فقال:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والفاطر: هو الخالق المبدع، وقرأ الجمهور:{فَاطِرُ} بالرفع، على أنه خبر آخر لذلكم، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره ما بعده، أو نعت لربي؛ لأن الإضافة فيه محضة، ويكون {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} معترضًا بين الصفة والموصوف، وقرأ زيد بن علي {فَاطِرُ} بالجر على أنه نعت للاسم الشريف، في قوله:{إِلَى اللَّهِ}، وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء، في عليه أو إليه، وأجاز الكسائي النصب على النداء، وأجازه غيره على المدح.
والمعنى: أي أنه الجدير بأن يعتمد عليه ويستعان به؛ لأنه خالق العوالم جميعها علويها وسفليها، على عظمتها التي ترونها، لاآلهتكم التي لا تستطيع أن تخلق شيئًا.
ثم بين بعض ما خلقه وأنعم به، فقال:{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}؛ أي: