ومعنى تمني الموت: تمني الشهادة في سبيل الله، والقتال لنصرة الحق، ولو ذهبت نفوسكم دونه.
وصفوة القول: لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الميدان، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه، وأنتم تنظرون إليه، لا تغفلون عنه، فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون به، ومن تمنى الشيء، وسعى إليه لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءَه.
وفي الآية الكريمة: تنبيهٌ لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس، والتمنّي، والتشهّي، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشاقّ، وعدم الثقة منها بما دون الجهاد، والصبر على المكاره في سبيل الحق حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدعي مع الغفلة، أو الجهل بعجزه عنه.
وكثيرًا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه، ويفكر في خدمتهما، ويتمنى لو يتاح له أن يساهم في تلك الخدمة بنفسه، أو بماله، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع، أو بعد أن ذاق مرارته، وكابد مشقته.
ولكن المؤمن حقًّا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حقٌّ، وذلك يستدعي العمل مهما كان شاقًّا، والجهاد مهما كان عسيرًا، والصبر على المكاره، وإيثار الحق على الباطل. وقد كان في الذين خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا في المرتبة العليا من صدق الجهاد، والصبر على المكاره، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبات الجبال الراسيات، وهم نحو ثلاثين رجلًا؛ لكنه جعل الخطاب عامًّا ليكون الإرشاد والنصح عامًّا للجميع، فيتهم ذوو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير فيزدادوا كمالًا على كمالهم، ويرعوي المقصرون، وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب في تهذيب الأنفس.
١٤٤ - وقد ظهر أثر ذلك في نفوس أولئك القوم فيما بعد، ورباهم تربيةً كانت بها