للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

صاروا إليه من سوء العاقبة.

ثمّ بيّن سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة، فقال: {كَانُوا}؛ أي: تلك الأمم {أَكْثَرَ} عددًا {مِنْهُمْ}؛ أي: من قومك {قُوَّةً} في الأبدان والعدد {وَآثَارًا} باقية بعدهم {فِي الْأَرْضِ} من الأبنية والقصور والمصانع وهي جمع مصنعة بفتح النون وضمها شيء كالحوض يجمع فيه ماء المطر، ويقال له: الصهريج وأكثر بلاد العرب محتاجة إلى هذا لقلة الماء الجاري والآبار فيها؛ أي: كانوا أكثر منهم عددًا، وأقوى منهم أجسادًا، وأوسع منهم أموالًا، وأظهر منهم آثارًا في الأرض بالعمائر والمصانع والحرث {فَمَا أَغْنَى} ودفع {عَنْهُمْ}؛ أي: عن تلك الأمم المهلكة {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؛ أي: كسبهم أو مكسوبهم من الأموال والأولاد شيئًا من عذاب الله تعالى حين جاءهم؛ فإذا لم تفدهم تلك المكنة العظيمة إلا الخبيبة والخسار .. فكيف هؤلاء الفقراء المساكين، ويجوز أن تكون {مَا} الأولى استقهامية؛ أي: أيّ شيء أغنى عنهم، أو نافية؛ أي: لم يغن عنهم، و {مَا} الثانية: يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون مصدرية، وهذه {الفاء}؛ أعني: قوله: {فَمَا أَغْنَى} لبيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم، وما كانوا يكسبون بذلك، زعمًا منهم أنَّ ذلك يغني عنهم، فلم يترتب عليه إلا عدم الإغناء، فهذا الاعتبار جرى مجرى النتيجة، وإن كان عكس الغرض ونقيض المطلوب، كما في قولك: وعظته فلم يتعظ؛ أي: لم يترتب عليه إلا عدم الاتعاظ، مع أنه عكس المتوقع.

وحاصل معنى الآية (١): أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قريش في البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، فينظروا فيما وطئوا من البلاد إلى ما حلّ بالأمم قبلهم، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، وكيف كانت عاقبة أمرهم، وقد كانوا أكثر منهم عددًا، وأشد بطشًا، وأقوى جندًا، وأبقى في الأرض أثرًا؛ لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا، ويتخذون مصانع، ويبنون أهرامًا ضخمة، فلما جاءهم بأسنا، وحلّت بهم نقمتنا .. لم يغن ذلك عنهم شيئًا، ولا ردّ عنهم العذاب الذي حل بهم.

٨٣ - و {الفاء} في قوله (٢): {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات


(١) المراغي.
(٢) روح البيان.