للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

توبيخ إلى توبيخ؛ أي: بل أيقول المشركون: بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جنون، ويقولون: إنما حمله على ادعائه الرسالة جنون، فلا يدري ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلًا، وأثقبهم ذهنًا، وأتقنهم رأيًا، وأوفرهم رزانة. ولكنه جاء بما يخالف هواهم، فدفعوه وجحدوه تعصبًا وحمية.

ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقّ}؛ أي: ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول، بل جاءهم الرسول متلبسًا بالحق والصدق الثابت، الذي لا ميل عنه، ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، فما هو إلا توحيد الله وما شرعه لعباده مما فيه سعادة البشر، {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ} من حيث هو حق؛ أي: حق كان لا لهذا الحق فقط، كما ينبىء عنه الإظهار في موضع الإضمار. {كَارِهُونَ} لما في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل، ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج، وزاغوا عن الطريق الأنهج، لما ران على قلوبهم من ظلمات الشرك، والإسراف في المعاصي والآثام.

وظاهر (١) النظم القرآني أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفًا من الكارهين له، وفي "فتح الرحمن" فإن قلت: كيف (٢) قال: ذلك - مع أنهم كلهم كانوا كارهين للتوحيد -؟ قلت: كان منهم من ترك الإيمان به أنفةً وتكبرًا من توبيخ قومهم لئلا يقولوا: ترك دين آبائه لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبي طالب:

فَوَاللَّهِ لَوْلاَ أَنْ أَجِيْءَ بِسُبَّةٍ ... تَجُرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِىْ الْقَبَائِلِ

إِذًا لاتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ... مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّخَاذُلِ

٧١ - ثم بيَّن سبحانه أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم، فقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} قرأ الجمهور (٣): على كسر الواو لالتقاء الساكنين، وابن وثاب بضمها تشبيهًا بواو الضمير، كما كسرت واو الضمير تشبيهًا بها. اهـ. "سمين"؛ أي:


(١) الشوكاني.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) الفتوحات.