للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الدول، والتسلط على ألطف الأشياء كالهواء، وعلى أصلبها كالحديد، ومن الجمع بين حرب الأعداء والاستغراق في ذكر الله، وتسخير العمّال في المباني العظيمة، واستخراج ما في البحار، من أصناف اللآلي، وما في باطن الأرض، من مختلف المعادن، لكفاية لقوم يجمعون بين العلم والعمل، إذ يعلمون أن العلم شجرة ثمرتها العمل، فعلى المسلمين قاطبةً، أن يصدعوا بما أمروا به في هذا الكتاب، وأن يعرضوا عن الجاهلين بأمور دينهم، فالله محاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبهم على قُدَرِهم الجسمية، وليعلموا أنه متى ذاعت هذه الآراء في الأمة، قامت كلها قومة رجل واحد، في تنظيم شؤونها، وتربية أبنائها، تربية تؤهلهم أن يكونوا قادة العالم الإنساني.

١٠٧ - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد (١) بهذا القرآن وأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك، من الأمور التي هي مناط السعادة في الدارين، في حال من الأحوال {إِلَّا} حال كونك {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قاطبةً في الدين والدنيا، فإن ما بعث به سبب لسعادة الدارين، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين، ومن أعرض عنه واستكبر، فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه فلا يُرحَم. فإن (٢) الناس كانوا في ضلالة وحيرة، فبعث الله تعالى سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فبيَّن لهم سبيل الثواب، وأظهر الأحكام، وميَّز الحلال من الحرام، وإن كل نبي قبل نبينا، إذا كذَّبه قومه أهلكهم الله تعالى بالخسف والمسخ والغرق فالله تعالى أخّر عذاب من كذّبه إلى الموت، ورفع عذاب الاستئصال عنهم به - صلى الله عليه وسلم - فجاء رحمةً في حق الكفار بسبب تأخير عقوبتهم. وقيل: المراد بالعالمين المؤمنون خاصة، والأول أولى بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}.

وفي "التأويلات النجمية": في سورة مريم بين قوله في حق عيسى - عليه السلام -: {وَرَحْمَةً مِنَّا} وبين قوله، في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} فرق عظيم، وهو أنه في حق عيسى ذكر الرحمة مقيدة بحرف {مِن}، و {مِن} للتبعض، فلهذا كان عيسى رحمة لمن آمن به، واتبع ما جاء به،


(١) روح البيان.
(٢) المراح.