مقدمات كثيرة لو احتاج العبد إلى مباشرتها بنفسه لعجز عن ذلك.
ومن سنة الله سبحانه حفظ كل لطيفة في طي كل كثيفةٍ، كصيانة الودائع في المواضع المجهولة؛ ألا ترى أنه جعل التراب الكثيف معدن الذهب والفضة وغيرهما من الجواهر، والصدف معدن الدر، والنحل معدن الشهد، والدود معدن الحرير، وكذا جعل قلب العبد محلًا ومعدنًا لمعرفته ومحبته، وهو مضغة لحم؛ فالقلب خلق لهذا لا لغيره؛ فعلى العبد أن يطهره من لوث التعلق بما سوى الله تعالى، فإنّ الله تعالى لطف به بإيجاده ذلك القلب في جوفه، ووصف نفسه بأنّه لطيف خبير مطلع على ما في الباطن، فإذا كان هو المنظر الإلهي وجب تخليته عن الأفكار والأغيار، وتحليته بأنواع المعارف والعلوم والأسرار، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينيلنا نواله ويرينا جماله.
١٥ - ثم نبه إلى نعمه على عباده، فقال:{هُوَ} سبحانه وحده الإله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} أي: لمنافعكم {اَلْأَرْضَ ذَلُولًا}، أي: ليّنةً منقادة غاية الانقياد لما تفهمه صيغة المبالغة، يسهل عليكم السلوك فيها لتصلوا إلى ما ينفعكم، ولو جعلها صخرة خشنة تعسَّر المشي عليها، أو جعلها لينة منبتة يمكن فيها حفر الآبار وشق العيون والأنهار وبناء الأبنية وزرع الحبوب وغرس الأشجار، ولو كانت صخرة صلبةً لتعذر ذلك، ولكانت حارّةً في الصيف جدًّا وباردةً في الشتاء؛ فلا تكون كفاتًا للأحياء والأموات، وأيضًا ثبتها بالجبال الراسيات كيلا تتمايل وتنقلب بأهلها، ولو كانت مضطربة متمايلة لما كانت منقادة لنا، فكانت على صورة الإنسان الكامل في سكوتها وسكونها.
والحاصل: أنَّ الله تعالى جعل الأرض بحيث ينتفع بها، وقسمها إلى سهول وجبال وبرار وبحار وأنهار وعيون، وملح وعذب، وزرع وشجر، وتراب وحجر ورمال، ومدر وذات سباعٍ وحيات، وفارغة، وغير ذلك بحكمته وقدرته. قال سهل رحمه الله: خلق الله الأنفس ذلولًا، فمن أذلّها بمخالفتها فقد نجّاها من الفتن والبلاء والمحن، ومن لم يذلها واتبعها أذلته نفسه وأهلكته. انتهى.
واختلفوا في مبلغ الأرض وكميتها، فروي عن مكحول أنّه قال: ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمس مئة سنة؛ مئتان من ذلك في البحر، ومئتان ليس