قالوا كذبا وبهتانا: آمنا كإيمانكم، وصدّقنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنّا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم؛ لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالنا، وأولادنا، ونساءنا من أيديهم، ونطّلع على أسرارهم {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}؛ أي: الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم، وسمّي هذا الجزاء استهزاء؛ للمشاكلة في اللفظ، كما سمّي جزاء السيئة سيئة، ويزيدهم في عتوهم وكفرهم، ويجعلهم حائرين متردّدين في الضلال؛ عقوبة لهم. {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا}؛ أي: هؤلاء هم الذين رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال، واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة إذ أضاعوا رأس المال، وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال،
فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح، وإنّ من كانت هذه حالتهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإنّ التاجر إن فاته الربح في صفقة، فربّما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال.
١٧ - ولمّا بيّن الله سبحانه وتعالى قبائحهم وعاقبة أمرهم، شرع يضرب أمثالهم، ويبيّن فيها وصفهم وما هم عليه، فقال:{مَثَلُهُمْ ...} إلخ، والمثل في الأصل: بمعنى النظير، ثمّ قيل: للقول السائر الممثل بمورده، كما ورد من غير تغيير، ولا يضرب إلّا بما فيه غرابة، ولذلك حوفظ عليه من التغيير، ثمّ استعير لكل حال، أو قصة، أو صفة لها شأن عجيب، وفيها غرابة، كقوله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، وقوله أيضا:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى}؛ أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال.
وعبارة «الروح»: ولمّا جاء الله بحقيقة حال المنافقين، عقّبها بضرب المثل؛ زيادة في التوضيح والتقرير، فإنّ التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع ثورة الجامح الأبيّ، كيف لا يلطف وهو إبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف، وإراءة للمخيّل محقّقا، وللمعقول محسوسا، وتصوير للمعاني بصورة الأشخاص، ومن