للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقرأ الجمهور (١): {فعدَّلك} بتشديد الدال؛ أي: صيرك معتدلًا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه، فهو بمعنى المخفف السابق، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وطلحة والأعمش وعيسى وأبو جعفر والكوفيون: بتخفيفها، واختار أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأولى، وقيل: معنى القراءة الأولى: أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها، ومعنى القراءة الثانية: أنه صرفه وأماله إلى أي صورة شاء إما حسنًا، وإما قبحًا، وإما طويلًا، وإما قصيرًا.

والمعنى (٢): أي يا أيها الإنسان العاقل الذي أوتي من قوة الفكر وبسطة القدرة ما أوتي حتى صار بذلك أفضل المخلوقات، أي شيء خدعك وجرأك على عصيان ربك الكريم الذي أنعم عليك بنعمة الوجود والعقل والتدبر، ولا تزال أياديه تتوالى عليك، ونعمه تترى لديك، ألا تشكر من برأك وصورك فأحسن صورتك، وجعلك معتدل القامة، تام الخلق؟

٨ - ثم أجمل ما فصله أولًا بقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)}، الجار والمجرور متعلق بـ {رَكَّبَكَ} لا بـ {عدلك}؛ لأن {أَيِّ} لها صدر الكلام، فلا يعمل فيها ما قبلها، و {مَا} زائدة لتعميم النكرة، و {شَاءَ} صفة لـ {صُورَةٍ}، والرابط محذوف، وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها؛ لأنها بيان لـ {عدلك}.

والمعنى: فعدلك، ركبك وألفك وجمعك في أيِّ صورة شاءها واقتضتها مشيئته وحكمته من الصور العجيبة الحسنة، أو من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه، كما في الحديث: "أن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم، وصورها في أي شبه شاء".

ويجوز أن يكون الجار متعلق بمحذوف من مفعول {ركب}؛ أي: ركبك حاصلًا في أي صورة شاءها، وقال مقاتل والكلبي ومجاهد: في أيِّ شبه من أب أو أم أو خال أو عم. وقال مكحول: إن شاء ذكر، وان شاء أنثى. وقال (٣) بعض المتأولين: إنه يتعلق بقوله: {فَعَدَلَكَ}، ولكنه معترض، كما مر آنفًا؛ أي: فعدلك


(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.