وقرىء:{الْغُيُوبِ} بالحركات الثلاث في الغين، إما بالضم، فجمع: غيب، والغيب: هو الأمر الذي غاب عن خلقه، وأما الكسر: فكذلك استثقلوا ضمتين والواو، فكسروا الغين لتناسب الكسر مع الياء، والضمة التي على الياء مع الواو، وأما بالفتح: ففعول للمبالغة، كالصبور والشكور، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدًّا.
أي: عالم (١) بكل ما غاب عن خلقه في السموات والأرض، قولًا كان أو فعلًا أو غيرهما، وفي "التأويلات": إنما ذكر الغيوب بلفظ الجمع؛ لأنه عالم بغيب كل أحد، وهو ما في ضمير كل أحد، وأنه تعالى عالم بما يكون في ضمير أولاد كل أحد إلى يوم القيامة، وإنما قال علّام بلفظ المبالغة ليتناول علم معلومات الغيوب في الحالات المختلفة كما هي بلا تغيّر في العلم عند تغير المعلومات من حال إلى حال، بحيث لا يشغله شأن حال عن حال.
والمعنى: أي قل يا محمد لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث: إنّ ربّي يلقي الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده، وهو العلم بمن يصطفيهم، كما قال سبحانه:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وقال:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وقد يكون المعنى كما روي عن ابن عباس: إنّ ربي يقذف الباطل بالحق؛ أي: يورده عليه، حتى يبطله ويزيل آثاره، ويشيع الحق في الآفاق، ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإِسلام ونشره بين الناس، وتبلُّج نوره في الكون، ونحوه:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}
٤٩ - ثمّ أكد ما سلف بأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر قومه بأنّ الإِسلام سيعلو على سائر الأديان، وأن غيره سيضمحل ويزول، فقال:{قُلْ} لهم يا محمد {جَاءَ الْحَقُّ}؛ أي: الإِسلام والتوحيد، وزال الشرك وذهب {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ} الجديد من الإبداء، بمعنى الابتداء والاستئناف؛ أي: وما يظهر الباطل الجديد الذي لم يسبق {وَمَا يُعِيدُ} الباطل القديم الذي سبق بعد ذهابه من الإعادة بمعنى العود؛ أي: وما يعود الباطل القديم الذي اتصف به المشركون أولًا؛ أي: ذهب الباطل ذهابًا لم يبقَ منه إقبال ولا إدبار، ولا إبداء ولا إعادة.