فيبطل اطرادها، فهو كما جعل الكفر والمعاصي سببًا للعذاب كما تقدم في الآية .. جعل الإيمان والعمل الصالح سببًا للنعيم، وذلك ما بينه بقوله:
٥٧ - {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: امتثلوا المأمورات، واجتنبوا المنهيات. {سَنُدْخِلُهُمْ} في الآخرة {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: تسيل من تحت أشجارها، وبين قصورها {الْأَنْهَارُ} من الماء، واللبن والخمر والعسل، حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقدرين الخلود في تلك الجنات {أَبَدًا}؛ أي: مدة لا نهاية لها ولا انقضاء؛ لأن نعيم الجنة لا ينقطع كعذاب النار، وإنما عبر هنا بالسين في قوله:{سَنُدْخِلُهُمْ}، وفي الكفار بسوف في قوله:{سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} .. إشعارًا بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمن وتبشيره به، وهذا الكلام راجع إلى قوله:{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} لف ونشر مشوش على حد قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} على عادته تعالى من ذكر الوعيد مع الوعد وعكسه.
والمعنى: أن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله سيدخلون جنات يتمتعون بنعيمها العظيم كفاء ما أخبتوا إلى ربهم، وقدموا من عمل صالح؛ لأن الإيمان وحده لا يكفي لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، بل لا بد معه من عمل صالح يشعر به المرء بالقرب من ربه، والشعور بهيبته وجلاله، {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}؛ أي: لهم في تلك الجنات أزواج مبرآت من العيوب الجسمانية، كالحيض والنفاس مثلًا، ومن العيوب الخلقية، فليس فيهن ما يوحشهم منهن، ولا ما يكدر صفوهم، وبذا تكمل سعادتهم، ويتم سرورهم في تلك الحياة، التي لا نعرف كنهها، وإنما نفهمها على طريق التمثيل وقياس الغائب على الشاهد، {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}؛ أي: ظلًّا كثيفًا كنينًا، لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم، ولا تنسخه شمس، أو المعنى: ونجعلهم في مكان لا حر فيه ولا قر، وفي ذلك إيماء إلى تمام النعمة والتمتع لهم برغد العيش، وكمال الرفاهية، فإن قلت (١): إذا لم يكن في الجنة شمس يؤذي حرها، فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟