فصارت بتسييرها، مثل السراب؛ أي: شيئًا كلا شيء؛ لتفرق أجزائها، وانبثات جواهرها، كقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦)}، أي: غبارًا منتشرًا، وهي وإن اندكت وانصدعت عند النفخة الأولى، لكن تسييرها كالسحاب، وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية.
والمعنى: أي إن الجبال لا تكون في ذلك اليوم على ثباتها المعروف، بل يذهب ما كان لها من قرار، وتعود كأنها سراب يرى من بعد، فإذا قربت منه لم تجد شيئًا لتفرق أجزائها، وانبثاث جواهرها.
والخلاصة: أنه سبحانه ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة، ولكن يجمع بينها بأن تقول:
أول أحوالها: الاندكاك والانكسار، كما قال تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤)}.
وثانيتها: أن تصير كالعهن المنفوش، كما قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)}.
وثالثتها: أن تصير كالهباء، وذلك بأن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن، كما قال: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦)}.
ورابعتها: أن تنسف وتقلع أصولها؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض تحتها غير بارزة، فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها، وهو المراد من قوله تعالى:{فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}.
وخامستها: أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها في الهواء كأنها غبار، وهو المراد بقوله تعالى:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}؛ أي: تراها في رأي العين ساكنة في أماكنها، والحال أنها تمر مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرًا حثيثًا، وذلك أن الأجرام إذا تحركت نحوًا من الإنحاء لا تكاد تتبين حركتها، وإن كانت في غاية السرعة لا سيما من بعيد.
وسادستها: أن تصير سرابًا؛ أي لا شيء، كما في هذه الآية.
٢١ - وبعد أن عدد وجوه إحسانه ودلائل قدرته على إرساله رسوله، وذكر أن يوم