للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرْمِلاَتُ مَلِيَّا

وقيل معناه: اعتزلني سالم العرض، لا تصيبك مني معرة، واختار هذا ابن جرير، فـ {مَلِيًّا} على هذا: منتصب على الحال من إبراهيم، وعلى القول الأول منتصب على الظرفية.

وقد قابل (١) الأب رفق الابن بالعنف، فلم يقل: يا بني، كما قاله الابن {يَا أَبَتِ} وقابل وعظه بالسفاهة إذ هدده بالشتم أو بالضرب بالحجارة بقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} وفي ذلك تسليةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتأسية له بإبراهيم فيما كان يلقى من الأذى من قومه، ويقاسيه منهم، ومن عمه أبي لهب من العنت والمكروه.

٤٧ - فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد .. {قَالَ} إبراهيم استئناف بياني {سَلَامٌ عَلَيْكَ}؛ أي: سلام توديع مني، وتحية مفارقة لك، ومشاركةٍ لك على ما أنت عليه، كائن عليك، لا سلام لطفٍ وإحسان لأنه ليس بدعاءٍ له كقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة، ودل على جواز مشاركة المنصوح له إذا أظهر اللجاج.

والمعنى: سلمت مني لا أصيبك بمكروه بعد، ولا أشافهك بما يؤذيك {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} والسين فيه للاستقبال، أو لمجرد التأكيد؛ أي: أدعو لك ربي أن يهديك إلى الإيمان, فإن حقيقة الاستغفار للكافر: طلب التوفيق للإيمان المؤدي إلى المغفرة، كما يلوح به تعليل قوله {وَاغْفِرْ لِأَبِي} بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} والاستغفار (٢) بهذا المعنى للكافر قبل تبيين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه، وإنما المحظور استدعاؤه له مع بقائه على الكفر، فإنه مما لا مساغ له عقلًا ولا نقلًا، وأما الاستغفار له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل، وإنما الذي يمنعه السمع، ألا ترى إلى أنه عليه السلام قال لعمه أبي طالب: "لا أزال أستغفر لك ما لم أُنْه عنه" فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية. ولا اشتباه في أن هذا الوعد من


(١) المراغي.
(٢) روح البيان.