يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات، أو يعقلون ما تتضمنه من المواعظ الداعية إلى الفضائل ومحاسن الأخلاق، حتى تجتهد في دعوتهم، وتحتفل برشادهم وتذكيرهم، وتطمع في إيمانهم، فما حالهم إلا حال البهائم في تركهم للتدبر فيما يشاهدون من البينات والحجج، بل هم أضل منها سبيلًا؛ إذ هي قد تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ومن يسيء، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيا ومشاربها، وتأوي إلى معاطنها ومرابضها, لكن هؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم وإساءة الشيطان لهم، وهو الذي قد زين لهم اتباع الشهوات إلا أنهم لا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا، إلا أن جهالة الأنعام مقصورة عليها، وجهالة هؤلاء تؤدي إلى وقوع الفتنة والفساد، وصد الناس عن سنن السداد، ووقوع الهرج والمرج بين العباد، إلا أن البهائم إذ لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عنادًا ومكابرة وتعصبًا وغمطًا للحق، إلا أنها لم تعطل قوة من القوى المودعة فيها، فلا تقصير من قبلها عن الكمال، أما هؤلاء فهم مبطلون لقواهم العقلية، مضيعون للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد قالوا: الملائكة روح وعقل، والبهائم نفس وهوى، والبشر مجمع الكل للابتلاء والاختبار، فإن غلبته النفس والهوى فضلته البهائم، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام.
٤٥ - ولما فرغ سبحانه من ذكر جهالة الجاهلين وضلالتهم .. أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد، مع ما فيها من عظيم الإنعام، وحاصل ما ذكره منها خمسة: الأول منها: مد الظل، والثاني: جعل الليل لباسًا، والثالث: إرسال الرياح، والرابع: مرج البحرين، والخامس: خلق البشر من الماء.
فأولها: الاستدلال بأحوال الظل، فقال:{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} الخطاب (١) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المراد منه العموم؛ لأن المقصود بيان إنعام الله تعالى