فإن قلت: وصفُ العرب بأنهم جاهلون بذلك، ينافي صحةَ الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم على كتاب الله تعالى، وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟
قلتُ: لا منافاة؛ إذ وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن - كما أشرنا في الحل - لا في ألفاظه، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام، بل في بيان معاني الألفاظ؛ لأن القرآن والحديث جاءا بلغتهم اهـ "كرخي".
{وَاَللهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بما في قلوب خلقه، {حَكِيمٌ} فيما فرض من فرائضه؛ أي: واسع العلم بشؤون عباده، وأحوالهم، من إيمان وكفر وإخلاص ونفاق، تام الحكمة فيما شرعه لهم، وفي جزائهم، من نعيم مقيم، أو عذاب أليم.
٩٨ - ثم قسم سبحانه الأعراب إلى قسمين:
القسم الأول منهما: ما ذكره بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ} أي يعد {مَا يُنْفِقُ}؛ أي: يصرفه في سبيل الله، ويتصدق به، {مَغْرَمًا}؛ أي: غرامةً وخسرانًا؛ إذ لا يحتسبه قربة عند الله، ولا يرجو عليه ثوابًا، وإنما ينفق رياءً، أو تقيةً، والمغرم التزام ما لا يلزم؛ أي: ومن الأعراب ناس كانوا ينفقون أموالهم في الجهاد رياءً وتقيةً، ويعدّون ذلك من المغارم التي يجب على المرء أداؤها طوعًا أو كرهًا، لدفع المكروه عن أنفسهم، أو قومهم، ولا منفعة لهم فيها، لا في الدنيا، وهو واضح، ولا في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث. قال الضحاك: وهم بنو أسد وغطفان.
{وَيَتَرَبَّصُ}؛ أي: ينتظر {بِكُمُ}، أيها المؤمنون، {الدَّوَائِرَ}؛ أي: دوائر الزمان، وصروفه، وتقلباته عليكم؛ أي: ينتظر أن تتقلب الأمور عليكم، بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فينعدم الإِسلام بموته، أو بغلبة المشركين عليكم، فتذهب قوتكم، فيتخلص من إعطاء الصدقة، والدوائر، جمع دائرة وهي، الحالة المنقلبة عن النعمة، إلى البليّة، وأصلها ما يحيط بالشيء، ودوائر الزمان، نوبه وتصاريفه ودوله، وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه. والمعنى؛ أي: وينتظرون أن تحُلَّ بكم نوائب الزمان، وأحداثه التي تدور بالناس، وتحيط بهم، فتبدل قوتكم ضعفًا وانتصارَكم هزيمةً، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم، إذ يستغنون عن إظهار