بل أكل من الشجرة متأولًا، وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نُهي عنها؛ لأنه تأوَّل نهي الله عن شجرة مخصوصة، لا على الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ، لا من المخالفة، وقيل: تأول أن الله تعالى لم ينهه عنها نهي تحريم.
فإن قلت: إذا نُفيت عنهم الذنوب والمعاصي .. فما معنى قوله:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم، وتوبتهم واستغفارهم، وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم، وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه؟
قلت: إن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده، وعظيم سلطانه، وقوة بطشه، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله، والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤخذ به غيرهم، وأنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها، ولم يؤمروا بها، وأتوها على وجه التأويل أو السهو، خائفون وجلون، وهي الذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم، ومعاصٍ بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وكان هذا أدنى أفعالهم، وأسوأ ما يجري من أحوالهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ أي: يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات، وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه، إن شاء الله تعالى.
١٢٣ - {قَالَ}؛ أي: قال الرب الذي انتهكت حرمة داره، وخولف أمره لآدم وحواء، بعد صدور الزلة منهما:{اهْبِطَا مِنْهَا}؛ أي: انزلا من الجنة إلى الأرض، حالة كونكما {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين في الهبوط، وهذا خطاب العتاب واللوم في الصورة، وخطاب التكميل والتشريف في المعنى، يقال: هبط هبوطًا: إذا نزل من علو إلى سفل، وخصهما بالهبوط لأنهما أصل البشر، ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال:{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}؛ أي: حالة كونه بعض ذريتكما متعادين لبعض في أمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب، والتحاسد والتباغض، وجمع الخطاب باعتبار أنهما أصل الذرية،