للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والمعنى: أي قال الله سبحانه للإنسيِّ، وقرينه من الجن حين اختصمها، فقال الإنسي: ربّ إنّ هذا أضلَّني عن الذكر بعد إذ جاءني، وقال الشيطان: ربّنا ما أطغيته، ولكن كان في ضلال بعيد عن الحقّ، فأعنته عليه بالإغواء من غير قسرٍ ولا إلجاء: لا تختصموا الآن عندي في موقف الحساب والجزاء، وقد قدمت إليكم بالوعيد على الطغيان في دار الكسب والتكليف، فقد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج، فما تركت لكم حجة عليَّ، فلا تطمعوا في الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة، والجملة: حال فيها معنى التعليل للنهي على معنى {لَا تَخْتَصِمُوا} وقد صحَّ عندكم وعلمتم أني قدمت إليكم بالوعيد، حيث قلت لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)} فاتبعتموه معرضين عن الحق، فلا وجه للاختصام في هذا الوقت، وإنما قدّر المعنى هكذا ليصح جعله حالًا، فإن مقارنة الحال لصاحبها من الزمان واجبة، ولا مقارنة بين تقديم الوعيد في الدنيا والاختصام في الآخرة.

٢٩ - {مَا يُبَدَّلُ} ولا يغير {الْقَوْلُ} والقضاء {لَدَيَّ}؛ أي: عندي (١)؛ أي: لا يغير قولي في الوعد والوعيد، فما يظهر في الوقت هو الذي قضيته في الأزل، لا مبدل له، والعفو عن بعض المذنبين لأسباب داعية إليه ليس بتبديل، فإنَّ دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد؛ يعني: ولا مخصص في حق الكفار، فالوعيد على عمومه في حقهم، قال الجلال الدواني في "شرح العضد": ذهب بعض العلماء إلى أن الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى، لا في الوعد، وبهذا وردت السنة، حيث قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من وعد لأحد على عمله ثوابًا فهو منجز له، ومن أوعده على عمله عقابًا .. فهو بالخيار". والعرب لا تعد عيبًا ولا خلفًا أن يعد شرًّا ثم لا يفعله، بل ترى ذلك كرمًا وفضلًا، وإنما الخلف أن يعد خيرًا ثم لا يفعله، كما قال:

وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُة أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيْعَادِيْ وَمُنَجِزُ مَوْعِدِيْ


(١) روح البيان.