اللهُ ذلك {مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: ما اختلَف الذين من بعدِ مجيءِ الرسل مِنَ الأممِ المختلفةِ اختلافًا مؤدِّيًا إلى الاقْتتالِ. فعَبَّرَ بالمُسَبِّبِ الذي هو الاقتتالُ عن السبب الذي هو الاختلافُ. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}؛ أي: مِنْ بعد ما جاءَتْهم المعجزاتُ الواضحة، والبراهينُ الساطعة التي جاءَتْهم بها رُسلُهم؛ بأَنْ جَعَلهم مُتَّفِقِينَ على اتباع الرسلِ المتفقةِ على كلمةِ الحق. {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} في الدِّين. وهذا الاستدراكُ واضحٌ؛ لأنَّ ما قبلها ضِدٌّ لِمَا بعدها؛ لأن المعنى: لو شاء الاتفاقَ لاتفقوا، ولكنْ شاء الاختلافَ فاختلفوا بمشيئته، ثم بَيَّنَ الاختلافَ فقال:{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} بما جاءت به أولئك الرسلُ مِنْ كلِّ كتابٍ، وعملوا به، وثَبَتُوا عليه، {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} بذلك بإعراضهِ عنه؛ لخذلانِ اللهِ إيَّاه؛ كالنصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فِرَقًا، ثُمَّ تحاربوا. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} قيل: هذه الجملةُ كُرِّرَتْ توكيدًا للأُولى، قاله الزمخشري. وقيل: لا توكيدَ، بل كُرِّر ذِكْرُ المشيئة باقتتالهم تكذيبًا لمَنْ زعم أنَّهم فَعَلوا ذلك من عند أنفسهم، ولم يوجبْه قضاءٌ مِنَ اللهِ؛ أي: ولو شاء الله عدمَ اقتتالهم بعدَ هذا الاختلافِ ما اقتتلوا. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} لا رادَّ لحُكْمه، ولا مُبدِّل لقضائه، فهو يفعلُ ما يشاءُ، ويحكم ما يريد، فيوفِّقُ مَنْ يشاء، ويَخذلُ مَنْ يشاء، لا اعتراضَ عليه في فعله.
٢٥٤ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصَدَّقوا بما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - {أَنْفِقُوا}؛ أي: اصرِفُوا وتَصَدَّقُوا {مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}؛ أي: مما أعطيناكم من الأموال في الخيرات {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ} أي: من قبل أن يجيء {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ} وهو: يوم القيامة؛ أي: لا يُؤْخذ فيه بَدَلٌ، ولا فِداءٌ يَفْتَدي به الإنسانُ نَفْسَه مِنْ عذابِ اللهِ لو فُرِضَ، وإنما سمَّاه بيعًا؛ لأنَّ الفِداءَ شِراءُ النفس من الهلاك. والمعنى: قَدِّموا لأنفسكم اليوم من أموالكم، من قبل أن يأتي يومٌ لا تجارةَ فيه؛ فيكسب الإنسانُ ما يفتدي به من عذاب الله. {وَلَا خُلَّةٌ}؛ أي: ولا مَودّةَ ولا صَدَاقةَ تنفعُ يومئذٍ. قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧)}، وقال أيضًا؛ {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١)}.
{وَلَا شَفَاعَةٌ} للكافرين؛ أي: ولا تنفعهم شفاعةُ الشافعين. وقَرَأ ابن كثير،