رُويَ أنَّ رسول هرقل ملك الروم، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب هرقل، وفيه أنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار"، يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم، والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو، والنار في جهة السفل.
١٣٤ - ثم وصف الله تعالى المتقين بجملة أوصافٍ كلها مناقب ومفاخر، فقال:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} ويصرفون أموالهم في مصارف الخير {فِي} حالة {السَّرَّاءِ} والغنى، والسعة، والفرح، والرخاء {وَ} في حالة {الضَّرَّاءِ} والفقر، والضيق، والحزن، والشدة، فينفقون في كل حال بحسبها، ولا يتركون الإنفاق في كلتا الحالتين لا في حال غنى وفقر، ولا في حال حزن وسرور، ولا في رخاءٍ وشدةٍ، ولا محنةٍ وبلاء، وسواء كان الواحد منهم في عرس أو حبس، فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس في جميع الأحوال. وأثر عن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة. وفي الحديث:"اتقوا النار ولو بشق تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق".
وإنما بدأ الله سبحانه وتعالى وصف المتقين بالإنفاق لأمرين:
الأول: أنه جاء في مقابلة الربا الذي نهى عنه في الآية السابقة؛ إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج، وإطعام له ما لا يستحقه، والربا استغلال الغني حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهي ضده. ومن ثم لم يرد في القرآن ذكر الربا إلّا ذم وقبح، ومدحت معه الزكاة والصدقة كما في قوله تعالى:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.
والأمر الثاني: أنَّ الإنفاق في حالي، اليسر والعسر أدل على التقوى, لأن المال عزيز على النفس، فبذله في طرق الخير والمنافع العامة التي ترضي الله يشق عليها أما في السراء؛ فلما يحدثه في السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع، وبعد الأمل، وأما في الضراء؛ فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا