والمعنى: أي ولقد نزلنا عليهم القرآن متواصلًا بعضه إثر بعض على ما تقتضيه الحكمة البالغة، وترشد إليه المصلحة العامة، وهي أن يكون أقرب إلى التذكير والتنبيه، فهم في كل يوم يطلعون فيه على حكمة جديدة وفائدة زائدة، فيكون ذلك أدعى إلى إيمانهم ورسوخه في نفوسهم، وامتلاء قلوبهم نورًا به، أو تابعنا لهم المواعظ والزواجر، وبيَّنا لهم ما أهلكنا من القرون قرنًا بعد قرن، فأخبرناهم أنا أهلكنا قوم نوح بكذا، وقوم هود بكذا، وقوم صالح بكذا، لعلهم يتعظون فيخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم.
٥٢ - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} وأعطيناهم {الْكِتَابَ}؛ أي: التوارة والإنجيل. والمراد بالكتاب الجنس الصادق بالكتابين، وهم مؤمنو أهل الكتاب، {مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل إيتاء القرآن، أو من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -. والموصول مبتدأ خبره جملة قوله:{هُمْ بِهِ}؛ أي: بالقرآن {يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون كونه من عند الله سبحانه؛ أي: الذين آمنوا بالتوراة والإنجيل من أهل الكتاب، ثم أدركوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، كعبد الله بن سلام وأضرابه، هم يؤمنون بالقرآن؛ لأنهم قد وجدوا في كتبهم البشرى به، وانطباق الأوصاف عليه. ونحو الآية قوله:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.
٥٣ - ثم بيَّن ما أوجب إيمانهم به بقوله:{وَإِذَا يُتْلَى} هذا القرآن {عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ}؛ أي: صدَّقنا بأنه كلام الله سبحانه، وقالوا:{إِنَّهُ الْحَقُّ} الذي نزل {مِنْ} عند {رَبِّنَا} حقًا و {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل نزوله وقراءته علينا {مُسْلِمِينَ}؛ أي: مخلصين لله بالتوحيد، مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أنه نبي حق؛ أي: وإذا تُلي هذا القرآن عليهم قالوا: صدقنا بأنه نزل من عند ربنا حقًا، وقد كنا مصدقين به قبل نزوله, لأنا وجدنا في كتبنا نعت محمد، ونعت كتابه. وفي هذا إيماء إلى أن إيمانهم به أمر متقادم العهد، لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة، وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن.
٥٤ - والإشارة بقوله:{أُولَئِكَ} إلى الموصوفين بتلك الصفات، أي: أولئك