يأخذوا بما فيه حيث يوصل إلى سعادتهم في المعاش والمعاد من المعتقدات الحقة، وقصص الأولين المذكرة بأمور الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم، أو عذاب أليم. واقتصروا على شؤون الدنيا، ورضوا بزخرفها، وجدوا في بلوغ أسمى المراتب فيها كما فعل النضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة، وأضرابهما.
والخلاصة: لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا، وانهمك في أمور الدنيا، وجعلها منتهى همته، وأقصى أمنيته، وقصارى سعيه فلا سبيل إلى إيمان مثله، فلا تبخع نفسك على مثله أسفًا وحزنًا، كما قال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)}.
٣٠ - ثم أكد ما مضى من أن همتهم مقصورة على الحياة الدنيا بقوله:{ذَلِكَ} التولي, وقصر الإرادة على الحياة الدنيا {مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}؛ أي: غاية علمهم، ونهايته، لا يكادون يجاوزونه إلى غيره، حتى يجديهم الدعوة والإرشاد كقوله تعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}. فـ {مبلغ} اسم مكان، وجمع الضمير في {مَبْلَغُهُمْ} باعتار معنى {مِنَ} كما أنّ إفراده فيما سبق باعتبار لفظها.
قال الفرّاء: أي ذلك قدر عقولهم، ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: الإشارة بذلك إلى جعلهم للملائكة بنات الله، وتسميتهم لهم تسمية الأنثى. والأول أولى. والمراد بالعلم هنا: مطلق الإدراك الذين يندرج تحته الظن الفاسد. والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم، واتباعهم مجرد الظن. وقيل: معترضة بين المعلل والعلة. وهي قوله:{إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ} وحاد {عَنْ سَبِيلِهِ} وأعرض عن الحق الذي هو التوحيد والطاعة. والمراد {بِمَنْ ضَلَّ}: هو من أصر عليه، ولم يرجع إلى الهدى أصلًا.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} فقبل الحق، وأقبل عليه، وعمل به. فإن هذا تعليل للأمر بالأعراض. فهو سبحانه مجازٍ كل عامل بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشرًا. وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإرشاد له بأنه لا يتعب نفسه في دعوة من أصر على الضلالة، وسبقت له الشقاوة؛ فإن الله سبحانه قد علم حال هذا الفريق الضالّ، كما علم حال الفريق الراشد.