ثُمّ أومأ الله سبحانه إلى بطلان مقالاتهم بقوله لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ} يا محمد! لهؤلاء الحَمْقى المتقاولين {هَاتُوا}؛ أي: أحضروا، وقرِّبوا، وهو أمرٌ تعجّبيٌّ {بُرْهَانَكُمْ}؛ أي: حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة، ولم يقل براهينكم؛ لأنَّ الدعوى كانت واحدة وهي: نفي دخول غيرهم الجنّة، والحجة على تلك الدعوى واحدة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في مقالتكم هذه، فإنَّ كُلَّ قولٍ لا دليل عليه غير ثابت.
١١٢ - {بَلَى} إثباتٌ لما نفوه من دخول غيرهم الجنة؛ لأنَّ بلى لإثبات النفي؛ أي: يدخلها غيركم، وعبارة "الروح": اعلم أنَّ قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ...} إلخ. مشتملٌ على إيجاب ونفي، أمّا الإيجاب: فهو أن يدخل الجنّة اليهود والنصارى، وأمّا النفي: فهو أن لا يدخل الجنة غيرهم، فقوله:{بَلَى} إثبات لما نفوه في كلامهم، فكأنّهم قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا، فأجيبوا بقوله: بلى يدخل الجنة غيركم، وليس الأمر كما تزعمون {مَنْ أَسْلَمَ} وبذل {وَجْهَهُ}؛ أي: نفسه (لـ) ـطاعة {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى، وأخلص إيمانه لا يشرك به شيئًا، وانقاد لأمره، وأخلص عبادته من شوائب الرياء والسمعة، فإنَّ إسلام (١) شيءٍ لشي جعله سالمًا بأن لا يكون لأحد حقٌّ فيه، لا من حيث التخليق والمالكية، ولا من حيث استحقاق العبادة والتعظيم، عبَّر عنها بالوجه؛ لكونه أشرف الأعضاء من حيث إنَّه معدن الحواس، والفكر، والتخيُّل، فهو مجاز من باب ذكر الجزء، وإرادة الكل، ومنهم قولهم: كرَّم الله وجهك، ويحتمل أن يكون إخلاص الوجه كنايةً عن إخلاص الذات؛ لأنَّ من جاد بوجهه لا يبخل بشيء من جوارحه، ويكون الوجه بمعنى العضو المخصوص، وقوله:{وَهُوَ مُحْسِنٌ} حالٌ من ضمير {أَسْلَمَ}؛ أي: وهو مع إخلاصه وتسليم النفس إلى الله بالكلية بالخضوع والانقياد، محسنٌ في جميع أعماله، بأن يعملها على وجهةٍ يستصوبها، فإنَّ إخلاصها لله لا يستلزم كونها مستحسنة بحسب الشرع، وحقيقة الإحسان: الإتيان بالعمل على الوجه اللائق، وهو حسنه الوصفيُّ التابع لحسنه الذاتيِّ، وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله:"أن تعبد الله كأنّك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا