فإن شاء عمل عمل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فكان من الذين سمعوا القول واتبعوا أحسنه، فجازاه الله أحسن الجزاء، وإن شاء تنكّب عن جادة الدين ورمى أحكامه وراءه ظهريا، وسار في غلواء الضلال، فكان من الأشقياء الذين كبكبوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ.
١٣٣ - {وَرَبُّكَ} يا محمد هو {الْغَنِيُّ} الكامل الغنى عن خلقه لا يحتاج إليهم، ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، ومع كونه غنيا عنهم فهو {ذُو الرَّحْمَةِ} الشاملة التي وسعت كل شيء إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه تعالى في وجوده وبقائه ومحتاج إلى الأسباب التي جعلها سبحانه قوام وجوده، فلا يكون غناه عنهم مانعا من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطول. ويقال في الخلق: هذا غني إذا كان واجدا لأهم تلك الأسباب التي هي من فيض مولاه، وهو مع ذلك محتاج إلى غيره. انظر إلى الغني ذي المال الكثير، تراه محتاجا إلى كثير من الناس، من الزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم، ومحتاجا إلى خالقه وخالق كل شيء، كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)}.
{إِنْ يَشَأْ} - سبحانه وتعالى - إذهابكم أيها الكافرون المعاندون واستئصالكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك واستخلاف غيركم بعدكم {يُذْهِبْكُمْ} بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم ممن عاندوا الرسل كعاد وثمود {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ} من الأقوام، فإنه غني عنكم وقادر على إهلاككم، وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم يكونون أحق برحمته منكم {كَما أَنْشَأَكُمْ}؛ أي: كما قدر على إنشأكم {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} وقد صدق وعده، فأهلك أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا، وجحدوا بما جاء به وهم يعلمون صدقه، واستخلف في الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم، ولم يلبث كفرهم أن زال بالتأمل في آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا، وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم، وكانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر حتى في حروبهم وفتوحهم،