الشيطان، أن لا حلال، ولا حرام، ولا جنة، ولا نار، فما هذه إلا أساطير الأولين، وإذا كان هذا حقا، واقتضته الحكمة، وأوجبته العدالة، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع، ويثاب على ما عمل، ويعاقب فيها العاصي، على ما دنس به نفسه من شرك بربه، واجترح للإثم، والعصيان، ومخالفة أمر الواحد الديان. والعقول السليمة، والفطر الصحيحة، ترشد إلى هذا، وتؤيده، وتدل عليه، وتثبته، فإنا نرى الظالم الباغي، قد يزداد في دنياه مالًا وولدًا، ويتمتع بصنوف اللذات من الدور، والقصور، والفراش الوثير، والسكن في الجنات، ويركب فاره الخيول المطهمة، والمراكب الفاخرة، ويشار إليه بالبنان، بينما نرى المطيع لربه المظلوم من بني جنسه، قد يعيش عيش الكفاف، ولا يجد ما يقيم به أوده، ويسد به مخمصته، أفيكون من حكمة الحكيم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، أن يترك الناس سدى، يفعلون ما شاؤوا بلا حساب ولا عقاب، أو ينتصف للمظالم من الظالم، ويرجع الحق إلى صاحبه، وربما لا يحصل هذا في هذا الدنيا، فلا بد من دار أخرى، يكون فيها العدل، والإنصاف، والكيل بالقسط، والميزان، وتلك هي الدار التي وعد بها الرحمن، على ألسنة رسله الكرام، صدق ربنا، وإن وعده لحق، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه، لتجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم.
٢٩ - ولما كان القرآن، هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة، والمآخذ العقلية الصحيحة، وكان منبع السعادات والخيرات .. وصفه أولًا، ثم بيّن المصلحة، فقال:{كِتابٌ}: خبر مبتدأ محذوف، وهو عبارة عن القرآن؛ أي: هذا كتاب {أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ} يا محمد. صفة لكتاب {مُبارَكٌ} خبر ثان للمبتدأ المحذوف، ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب، لما تقرر عندهم، من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح، عن غير الصريح، وقد جوزه بعض النحاة، قرأ الجمهور:{مُبارَكٌ} بالرفع على الصفة لـ {كِتابٌ}، وقرىء {مباركا} بالنصب على الحال اللازمة، والتقدير؛ أي: هذا القرآن الذي نتلوه عليك يا محمد، كتاب أنزلناه إليك، كثير المنفعة دينًا ودنيا، لمن آمن به، وعمل بأحكامه، وحقائقه، وإشاراته، فإن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك ما فيه ذلك الخير.