على أنه خلق الإنسان، وقوَّمه أفضل تقويم، وركبه أحسن تركيب، وجعله في أحسن اعتدال، وأفضل قوام، وقطره أحسن فطرة نفسًا وبدنًا، وكرمه بالعقل الذي ساد به العوالم الأرضية، وأطلعه به على ما شاء الله سبحانه من العوالم السماوية حتى أوصله بحكمته تعالى وأمره إلى القمر، وجعله يطير في الفضاء، ويحلق في الأجواء، ويغوص في الماء، ويفعل العجائب والغرائب، كل ذلك بفضله تعالى، وفضل هذا العقل الذي ركبه فيه، وهو عجيب من عجائب خلق الله تعالى.
قصة وفتوى
ذكر أنه كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبًا جمًا، وقد خرج معها يومًا في ليلة مقمرة، فقال لها: أنت طالق ثلاثًا إن لم تكوني أحسن من هذا القمر، فنهضت المرأة واحتجبت عنه، وقالت: لقد طلقتني، وبات زوجها بليلة كئيبة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى الخليفة المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعًا عظيمًا، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلقت إلا رجلًا واحدًا من أصحاب أبي حنيفة، وهو القاضي يحيى بن أكثم، فإنه كان ساكتًا، فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال: الرجل لم يطلق، ولم يحنث في يمينه، فقيل له خالفت شيوخك، فقال: الفتوى بالعلم، ولقد أفتى من هو أعلم منا وهو الله تعالى، فإنه يقول عز من قائل عليم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)} يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك، وأرسل إلى زوجة الرجل أن أطيعي زوجك، ولا تعصيه، فما طلقك. ذكرها "القرطبي" و"الرازي" وغيرهما.
وهذا الفهم لهذه الآية مما يدل على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنًا وظاهرًا جمال هيئة وبديع تركيب، قامته منتصبة، وصورته حسنة، وخواص الكائنات فيه مستجمعة، وقواه الباطنة تامة، وحواسه كافية، وأعضاء بطنه وعمله بما يحتاج إليه قائمة، ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالَم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه، وفي هذا الإنسان قال الشاعر: