للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بالأستار؛ أي: لا أحب (١) ربًّا يغيب ويحتجب؛ إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ويوحشه فقده، فما بالك بحب العبادة له الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله؛ لأنه قد هدت إليه الفطرة، وأرشد إليه العقل السليم، فلا ينبغي أن يكون إلا للرب الحاضر القريب السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يغفل ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر في كل شيء بآياته:

وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

والباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) وقد جاء في الحديث في وصف الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

والخلاصة: أن في هذا تعريضًا بجهل قومه في عبادة الكواكب، إذ يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدري شيئًا من أمر عبادتهم، وهذا قريب من قوله لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}. وإنما احتج (٢) إبراهيم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؛ لأن الاحتجاج بالأفول أظهر؛ لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب، وجاء بلفظ {الْآفِلِينَ}؛ ليدل على أن ثَمَّ آفلين كثيرين ساواهم هذا الكوكب في الأفول، فلا مزية له عليهم في أن يعبد للاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث.

٧٧ - {فَلَمَّا رَأَى} إبراهيم {الْقَمَرَ} حال كونه {بَازِغًا}؛ أي: طالعًا من وراء الأفق أول طلوعه {قَالَ} إبراهيم {هَذَا} القمر الطالع {رَبِّي}؛ أي: معبودي على طريق الحكاية لما كانوا يقولون؛ تمهيدًا لإبطاله كما علمت فيما سلف، والمتبادر من سياق الكلام أن إبراهيم رأى الكوكب في ليلة، ورأى القمر في الليلة التالية {فَلَمَّا أَفَلَ} القمر وغاب، كما أفل الكوكب وهو أكبر منه منظرًا وأسطع نورًا وأقوى منه ضياء {قَالَ} إبراهيم مسمعًا من حوله من قومه: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي}؛ أي: لئن لم يثبتني ربي على الهداية ويوفقني للحجة، وليس المراد


(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.