وقرىء {لا تَناصَرُونَ} بتاء واحدة، وبتاءين، وبإدغام إحداهما في الأخرى. وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت، لأنه وقت تنجّز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة، وحالة انقطاع الرجاء منها بالكلية. فالتوبيخ والتقريع حينئذ أشد وقعا وتأثيرا وفي الأثر:«لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن خمس: عن شبابه فيم أبلاه، وعن عمره فيم أفناه، وعن ماله مم كسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به». وقد جاء في الآثار:«إن مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء الليلة». خصوصا إذا كان مما يتعلق بالله ويقل أهله في هذا الزمان، وانقطعت مذاكرته عن اللسان، لانقطاع ذوق الجنان وانسداد البصيرة. والعياذ بالله من الخذلان والحرمان.
والخلاصة: إن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم، إنما يكون بعد إقامة الحجج عليهم، وقطع أعذارهم بعد حسابهم.
٢٦ - ثم أضرب سبحانه، عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنا لك، فقال:{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ}؛ أي: فيقول الله سبحانه: بل هم في هذا اليوم الرهيب {مُسْتَسْلِمُونَ}؛ أي: منقادون لأمر الله، لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، ذليلون خاضعون بالاضطرار لظهور عجزهم. إذ قد سدت أمامهم وجوه الحيل، وعجزوا عن الوصول إلى السلام من أي طريق يلتمسونها، فلا فائدة في المنازعة، ولا سبيل إلى الجدل والمخاصمة. فأسلم بعضهم بعضًا إلى الهلكة وخذله عن عجز، فكل مستسلم صاحبه غير منتصر له، كقوم متحابين انكسرت سفينتهم، فوقعوا في البحر، فأسلم كل واحد منهم صاحبه إلى الهلكة لعجزه عن تنجية نفسه فضلًا عن غيره، بخلاف حال المتحابين في الله سبحانه.
٢٧ - {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ}؛ أي: بعض الكفار بوجهه. وهم الأتباع أو الكفرة. والإقبال ضد الإدبار عَلى بَعْضٍ هم الرؤساء أو القرناء حال كونهم {يَتَساءَلُونَ} ويتخاصمون؛ أي: يسأل بعضهم بعضًا سؤال توبيخ، بطريق الخصومة والجدال، كأنه قيل: كيف يتساءلون؟
٢٨ - فقيل:{قَالُوا}؛ أي: الأتباع للرؤساء أو الكفرة للقرناء {إِنَّكُمْ} أيها الرؤساء أو القرناء {كُنْتُمْ} في الدنيا {تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ}؛ أي: بالقوة والإجبار. فـ {عَنِ} بمعنى الباء، واليمين بمعنى القوة كقوله تعالى: {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣)}؛ أي: بالقوة،