للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

استهزائهم، وأنَّ تحمُّلَ هذا الضَّرَرَ أهون من كتم شيء من الوحي، والمقصود من هذا الكلام: التنبيهُ على هذه الدقيقة, لأن الإنسان إذا عَلم أنَّ كلَّ واحد من طَرَفَي الفعلِ والترك مشتملٌ على ضَرَرٍ عظيم، ثمَّ عَلِمَ أنَّ الضَّرَرَ في بابِ الترك أعْظَمُ، سَهُلَ عليه الإقدامُ على الفعل، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتركُ شيئًا من الوحي، هَيَّجَه لأداء الرسالة، وطرح المبالاةِ باستهزائهم، ورَدِّهم إلى قبول قوله بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}؛ أي: لعَلَّكَ تتركُ أن تلقِيَه إليهم مخافةَ رَدِّهِم، واستهزائهم به، وضائقٌ به صَدْرُكَ؛ أي: بأنْ تَتْلُوَهُ عليهم، والله أعلم.

١٣ - و {أَمْ} في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ...} (١) هي: المنقطعة التي تقدَّرُ بمعنى بَلْ الإضرابية، وهمزة الاستفهام التوبيخي، والتقريعي، والضميرُ المستتر في {افْتَرَاهُ} للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والبارزُ إلى ما يُوحى إليه.

أي: بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكَّة: إنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد افترَى هذا القرآن واختلقَه من عند نفسه، {قُلْ} لهم يا محمَّد في جواب مقَالَتِهم هذه، ورَدِّها إن كانَ الأَمْرُ كما تزعمون {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}؛ أي: مثل القرآن في البلاغة، وحُسْنِ النَّظْمِ، وجزالة اللفظ، وفَخامةِ المعاني، ووصَفَ السُّورَ بما يوصف به المفرد، فقال: {مِثْلِهِ} ولم يقل: أمثالِه؛ لأنَّ المرادَ: مماثَلَة كلِّ واحد من السور، أو لقصد الإيماء إلى وَجْه الشبه، ومدارةِ المماثلة في شيء واحد، وهو البلاغة البالغة إلى حد الإعجاز، وهذا: إنما هو على القول بأنَّ المطابقةَ في الجمع، والتثنية، والإفراد، شرطٌ، ذَكَرَه الشوكاني، أي: بعشر سور مماثلة للقرآن في ذلك {مُفْتَرَيَاتٍ}؛ أي: مختلفات من عند أنفسكم, لا تدَّعُون أنها من عند الله تعالى، فإنكم أهلُ اللَّسَنِ والبيان، والمران على المفاخرة بالفصاحة، والبلاغة، وفنون الشعر، والخَطابة، ولَم يسبِقْ لي مع العمر الطويل الذي عشته بينكم أنْ أُزاوِل شيئًا من ذلك، فإن كَانَ من كلام البشر، فأنتم على مثله أقْدَرُ، وإنكم لتعلمون أني لم أكذب على بشر قط، فكيف أَفْتَرِى على الله؟


(١) الشوكاني.