للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يعني إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}؛ أي: قادرين على أن نفعل هذا، وإن كان عجبًا عندكم، أو فاعلين هذه الأعاجيب، من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا. روي أن داود كان إذا مرّ يسمعه تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. وقرىء (١) {وَالطَّيْرَ} مرفوعًا على الابتداء، والخبر محذوف؛ أي: مسخر، لدلالة "سخرنا" عليه، أو على الضمير المرفوع في {يُسَبِّحْنَ} على مذهب الكوفيين، وهو توجيه قراءة شاذة.

ومعنى الآية: أي (٢) وسخرنا الجبال والطير لداود، تقدس الله معه، بحيث تتمثل له مسبحة، فيكون ذلك أملك لوجدانه وجميع مشاعره، فيستغرق في التسبيح، وكنا فاعلين لأمثاله، فليس ذلك ببدع منا، وإن كنتم تعجبون منه، فإن المستغرقين في التسبيح والتقديس يحصل لهم من الأنس بالله ما يجعل العالم كله في نظرهم مسبحًا، وكأن العوالم كلها تنطق لهم به، بلسان أفصح من لسان المقال، ولا يدرك هذا أحد إلا بوجدانه. ونحو الآية قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.

٨٠ - {وَعَلَّمْنَاهُ}؛ أي: وعلمنا داود {صَنْعَةَ لَبُوسٍ}؛ أي: عمل الدروع وإصلاحها والصنع (٣) وهذا الصنعة إجادة الفعل، فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعًا، والصناعة حرفة الصانع كالكتابة والحياكة، وعمل الصنعة. واللبوس في الأصل: اللباس درعًا كان أو غيرها، وكانت الدروع قبل داود صفائح؛ أي: قطع حديد عراضا، فحلقها وسردها {لَكُمْ} أي: لأجل نفعكم يا أهل مكة فإن الله تعالى ألان الحديد لداود، فكان يعمل منه بغير نار، كأنه طين، فهو متعلق بـ "علمنا"، أو بمحذوف هو صفة {لبوس}.

والمعجزة فيه أنه فعل ذلك من غير استعانة بأداة وآلةٍ، من نحو الكير والنار


(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.