يأكلوا، فأضمر في نفسه الخوف منهم، ظنًّا منه أنّ امتناعهم إنما كان لشرّ يريدونه، فإنّ أكل الضيف أمنة، ودليل على سروره وانشراح صدره، وللطعام حرمة، وفي الإعراض عنه وحشة موجبة لسوء الظنّ وقد جاء في سورة هود:{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} ثمّ ذكر أنهم طمأنوه حينئذٍ، فقال:{قَالُوا لَا تَخَفْ} منا {إِنَّا رُسُل رَبك} وجاء في الآية الأخرى: {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}. فبشّروه بإسحاق بن سارة، كما جاء في سورة هود:{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}. وجاءت البشرة بذكر؛ لأنّه أسرّ للنفس، وأقر للعين ووصفه بالعلم؛ لأنّه الصفة التي يمتاز بها الإنسان الكامل، لا الصورة الجميلة، ولا القوّة، ولا نحوهما.
٢٩ - ثم أخبر عمّا حدث من امرأته حينئذٍ، فقال:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ}؛ أي: امرأة إبراهيم، وزوجته سارة، لما سمعت بشارتهم إلى بيتها، وكانت في زواية تنظر إليهم، قال ابن الشيخ: فأقبلت إلى أهلها، وكانت مع زوجها في خدمتهم، فلمّا تكلّموا بولادتها .. استحيت، وأعرضت عنهم، فذكر الله سبحانه ذلك بلفظ الإقبال على الأهل، ولم يذكره بلفظ الإدبار عن الملائكة.
قال سعدي المفتي كذا في "التفسير الكبير": ولا يناسبه (١) قوله: {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} فإنه يقتضي كونها عندهم، فالإقبال إليهم؛ أي: فأقبلت امرأته على الملائكة {فِي صَرَّةٍ} حال من فاعل {أقبلت} والصرّة: الصيحة الشديدة؛ أي: حالة كونها متلبسة بصيحة وصوت شديد وقيل: صرّتها قولها: أوّه، أو يا ويلتي، أو رنّتها، والصرّة أيضًا: الجماعة، وبها فسّرها بعضهم؛ أي: أقبلت في جماعة من النساء كن عندها، وهي واقفة متهيّئة للخدمة.
{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا}؛ أي: لطمت وجهها من الحياء، لما أنها وجدت حرارة دم الحيض، وقيل: ضربت بأطراف أصابعها جبينها كما يفعله المتعجّب، وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئًا. {وَقَالَتْ} أنا {عَجُوزٌ عَقِيمٌ}؛ أي: أنا عجوز عاقر لم