في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء مستجابًا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.
ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه، واستجابة دعائه .. سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهي على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله:
{قَالَ} جبريل {كَذَلِكَ}؛ أي: الأمر كما قلت لك من خلق ولد منكما، وأنتما على حالكما من الكبر. {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} من الأفاعيل الخارقة للعادة، فمتى شاء أمرًا .. أوجد له سببه، أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شيء، ففوض الأمر إليه، ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك إلى الوصول بمعرفتها، وإنما قال في حق زكريا:{يَفعَلُ}، وفي حق مريم:{يخلق} مع اشتراكهما في بشارتهما بولد؛ لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمر خارق، بل نادر بعيد، فحسن التعبير بـ {يَفعَلُ}، واستبعاد مريم لأمر خارق، أي: لأغربيته؛ لأنه اختراع بلا مادة؛ أي: من غير إحالة على سبب ظاهر، فكان ذكر الخلق أنسب.
٤١ - {قَالَ} زكريا {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}؛ أي: علامة في حبل امرأتي {قَالَ} الله تعالى {ءَايَتُكَ}؛ أي: علامتك في حبل امرأتك {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ}؛ أي: أن لا تقدر على تكليم الناس من غير خرسٍ، لا على غيره من الأذكار وقرأ ابن أبي عبلة؛ {أن} لا تكلمُ برفع الميم على أنَّ: {أن} هي المخففة من الثقيلة. {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} متوالية بلياليها {إِلَّا رَمْزًا}؛ أي؛ إلا إيماءً وإشارة بالشفتين والحاجبين والعينين واليدين. وقرأ علقمة بن قيس ويحيى بن وثاب شذوذًا:(رُمُزًا) - بضم الراء واليم -، وخُرِّج على أنه جمع: رموز؛ كرسل ورسول وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فُعْل، وأتبعت العين الفاء؛ كاليسر والعسر. وقرأ الأعمش شذوذًا أيضًا:(رمزًا) بفتح الراء واليم، وخُرِّج على أنه جمع رامزٍ كخادم وخدم وانتصابه إذا كان جمعًا على الحال من الفاعل، وهو الضمير في {تكلم}، أو من المفعول، وهو:{الناس}؛ أي: مسترًا مزينًا؛ كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه، ووجه جعل حبس لسانه عن كلام الناس تلك