غيركم، بإرسال الرسل منكم، وإنزال الكتب عليكم؛ أي: على غيركم من الشعوب والأمم، حتى الأمم ذات الحضارة والمدنية، كالمصريين، وسكان الأراضي المقدّسة. وقد ناداهم باسم أبيهم؛ لأنه منشأ فخارهم، وأصل عزهم. وأسند النعمة والفضل إليهم جميعا؛ لشمولهما إياهم، والتفضيل إنما أتاهم؛ لتمسكهم بالفضائل، وتركهم للرذائل، إذ من يرى نفسه مفضلا شريفا يترفع عن الدنيا، وذكّرهم بهذا الفضل؛ لينبّههم إلى أن الذي فضّلهم على غيرهم، له أن يفضل عليهم غيرهم، كمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، وإلى أنهم أجدر من جميع الشعوب، بالتأمل فيما أوتيه النبي صلّى الله عليه وسلّم من الآيات، فإنّ المفضّل أولى بالسبق إلى الفضائل ممن فضل عليه، وهذا الفضل إن كان بكثرة الأنبياء، فلا مزاحم له فيه، ولا تقتضي هذه الفضيلة أن يكون كلّ فرد منهم، أفضل من كل فرد من غيرهم، ولا تمنع أن يفضلهم أخسّ الشعوب إذا انحرفوا عن جادّة الطريق، وتركوا سنة أنبيائهم واهتدى بهديها غيرهم، وإن كان بالقرب من الله باتباع شرائعه، فذلك إنما يتحقّق في أولئك الأنبياء والمهتدي من أهل زمانهم، ومن تبعهم بإحسان ما داموا على الاستقامة، وسلكوا الطريق الذي استحقوا به التفضيل.
قال القشيري (١): أشهد الله سبحانه بني إسرائيل فضل أنفسهم، فقال:{فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} وأشهد محمدا صلّى الله عليه وسلّم فضل ربه، فقال:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} وشتان بين من مشهوده فضل نفسه، وبين من مشهوده فضل ربه، وشهوده فضل نفسه، قد يورث الإعجاب، وشهوده فضل ربه، يورث الإيجاب. ثم إن اليهود كانوا يقولون: نحن من أولاد إبراهيم خليل الرحمن، ومن أولاد إسحاق ذبيح الله، والله تعالى يقبل شفاعتهما،
٤٨ - {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)} [البقرة: ٤٩] فرد الله عليهم، فأنزل هذه الآية وقال:{وَاتَّقُوا}؛ أي: واخشوا يا بني إسرائيل! وخافوا {يَوْمًا}؛ أي: حساب يوم، أو عذاب يوم، وهو من إطلاق المحل وإرادة الحال، وهو يوم القيامة {لا تَجْزِي} فيه؛ أي: لا تغني ولا تدفع فيه، أو لا تقضي ولا تؤدّي فيه، والجملة صفة يوم، والرابط فيه محذوف، كما قدّرنا {نَفْسٌ} مؤمنة عَنْ {نَفْسٍ} كافرة {شَيْئًا} من