قال الزمخشري (١): ألهم الله سبحانه الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة، والعلوم الجمة، والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه، وتنبيهًا على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به سليمان لتتحاقر إليه نفسه، ويصغر إليه علمه، ويكون لطفًا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، اهـ.
٢٣ - ولما أبهم الهدهد أولًا، ثم أبهم ثانيًا دون ذلك الإبهام .. صرح بما كان أبهمه، فقال:{إِنِّي وَجَدْتُ} ورأيت {امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}؛ أي: تملك أهل سبأ، وهذه الجملة كالبيان والتفسير للجملة التي قبلها؛ أي: ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء.
وإيثار {وَجَدْتُ} على رأيت؛ لأنه أراه عليه السلام كونه عند غيبته بصدد خدمته بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوال تلك المرأة، كأنها ضالة ليعرضها على سليمان، والضمير في {تَمْلِكُهُمْ} لسبأ على أنه اسم للحي، أو لأهل المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنه اسم لها، يعني أنها تملك الولاية والتصرف عليهم ولم يرد به ملك الرقبة، والمراد بها بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن ريان من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وورث الملك من أربعين أبًا، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك، ودانت لها الأمة، وكانت هي وقومها يعبدون النار، وكان أبوها يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤًا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: قارعة، أو ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس، وتسمى بلقة، وبلقيس - بالكسر -، كما في "القاموس". وذلك يدل على إمكان العلوق بين الإنسي والجني، كما قيل. وذلك لأن الجن وإن كانوا من النار، لكنهم ليسوا بباقين على عنصرهم الناري، كالإنس ليسوا بباقين على عنصرهم الترابي، فيمكن أن يحصل الازدواج