من التبكيت بما ذكر إلى التبكيت بوجه آخر، أي: بل ألكم براءة، وأمن من عذاب الله بمقابلة كفركم، ومعاصيكم، نازلة في الكتب السماوية، فلذلك تصرون على ما أنتم عليه، وتأمنون بتلك البراء.
والمعنى به: الإنكار. يعني: لم ينزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمن من عذاب الله.
٤٤ - {أَمْ يَقُولُونَ} جهلًا منهم {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} تبكيت آخر. والالتفات فيه للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم. يقال: نصره من عدوه فانتصر؛ أي: منعه فامتنع؛ أي: بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن أولو حزم ورأي، أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام, أو منتصر من الأعداء منتقم منهم لا نغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضًا على أن يكون افتعل بمعنى تفعل، كاختصم. والإفراد في {مُنْتَصِرٌ} باعتبار لفظ الجميع. قال أبو جهل - وقد ركب يوم بدر فرسًا كميتًا كان يعلفه كل يوم فرقًا من ذرةٍ، وقد حلف أنه يقتل محمدًا - صلى الله عليه وسلم -: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فقتلوه يومئذٍ، وجر رأسه إلى رسول الله ابن مسعود رضي الله.
والمعنى (١): أي أم لكم صك بالبراءة من تبعات ما تجترحون من السيئات، وأن ربكم لن يعاقبكم على ما تدسون به أنفسكم من الشرور والآثام، فأنتم على هذا الصك تعتمدون، وبهذا الوعد آمنون، حقًا إنكم لتطمعون في غير مطمع، وليس بين أيديكم ولا قلامة ظفر من هذا، فعلام تتكلون، أو إلام تستندون؟.
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤)}؛ أي: بل هم يقولون نحن واثقون بشوكتنا. فنحن قوم أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام، وإنا منصورون على من قصدنا بسوء، أو أراد حربنا وتفريق جمعنا.
وجماع القول: إنه تعالى سد عليهم المسالك، ونقض جميع المعاذير التي ربما تعللوا بها في عدم تصديقهم بالرسول، وفي كفرهم بآيات ربهم، فقال لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم؟ أأنتم أقل كفرًا وعنادًا منهم،