ثمّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليّ والغائب بالشاهد، ولأمر مّا أكثر الله سبحانه في كتبه الأمثال والعبر، وفي الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال، وفي القرآن ألف آية من الأمثال والعبر، وهي في كلام الأنبياء عليهم السلام والعلماء والحكماء كثيرة، لا تحصى، ذكر السيوطي في «الإتقان» من أعظم علم القرآن أمثاله، والناس في غفلة عنه.
والمعنى (١): مثلهم؛ أي: حالهم وصفتهم العجيبة الشأن {كَمَثَلِ الَّذِي}؛ أي: كحال الذين من باب وضع مفرد الموصول موضع الجمع منه؛ تخفيفا للكلام؛ لكونه مستطالا بصلته، كقوله:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا}، والقرينة ما قبله وما بعده، لكن إنّه وحّد الضمير في قوله: اسْتَوْقَدَ نارًا نظرا إلى صورة اللفظ، وجمع في الأفعال الآتية نظرا إلى المعنى. والاستيقاد: طلب الوقود، والسعي في تحصيله، وهو سطوع النور، وارتفاع لهبها. والنار: جوهر لطيف مضيء محرق حارّ، والنور ضوؤها وضوء كلّ نيّر، وهو نقيض الظلمة؛ أي: كمثل الذي أوقد في مفازة في ليلة مظلمة نارا عظيمة؛ خوفا من السباع وغيرها.
{فَلَمَّا أَضاءَتْ} الإضاءة: فرط الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا}. وقرأ ابن السميقع، وابن أبي عبلة {فلما ضاءت} ثلاثيا فيتخرّج على زيادة ما، أو على أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة، أو موصوفة؛ أي: أنارت النار {ما حَوْلَهُ}؛ أي: ما حول المستوقد من الأماكن والأشياء على أنّ {ما} مفعول {أَضاءَتْ} إن جعلته متعدّيا و (حول) نصب على الظرفية، وإن جعلته لازما، فهو مسند إلى {ما}، والتأنيث؛ لأنّ ما حوله أشياء وأماكن، وأصل الحول: الدّوران، ومنه الحول للعام؛ لأنّه يدور. وجواب {لما} قوله سبحانه {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}؛ أي: أذهبه بالكلية، وأطفأ نارهم التي هي مدار نورهم. وإنّما علّق الإذهاب بالنور دون نفس النار؛ لأنّه المقصود بالاستيقاد. وقرأ اليمانيّ {أذهب الله نورهم}، وهذا يدلّ على مرادفة الباء للهمزة في التعدية.