أعْلَمُ أنَّ حْصُولَهُ على مقتضى الحكمة {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي}؛ أي: وإن لم تغفر لي ذَنْبَ هذا السؤال الذي سولته لي الرحمة الأبوية، وطمعي في الرحمة الربانية {وَتَرْحَمْنِي} بقبول توبتي، برحمتك التي وَسِعَت كُلَّ شيء {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} في أعمالي، فلا أربح فيها؛ أي: أكنْ من الخاسرين فيما حاولته من الربح بنجاة أولادي كلِّهم، وسعادتِهم بطاعتك، وأنت أعلم بها مني، وقد استدلّ بهذه الآيات من لا يرى عِصْمَة الأنبياءِ، والخاسرون هم المغبونون حُظُوظَهم من الخير، ونَسَب النَّقْصَ والذَّنْبَ إلى نفسه، تأدبًا مع ربه، فقال:{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي}، أي: ما فرط من سؤالي، وترحمني بفضلك، وهذا كما قال آدم عليه السلام.
والعبرة في الآية من وُجوهٍ (١):
١ - أنَّ ما سأله نوح لابنه لم يكن معصيةً لله تعالى، خَالَفَ فيها أمْرَه أو نَهْيَهُ، وإنما كَانَ خَطأً في اجتهاد بنية صالحةٍ، وعَدَّ هذا ذَنْبًا لأنه ما كان ينبغي لِمِثْلِهِ من أرباب العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه، ومِثلُ هذا الاجتهاد لم يُعْصَم منه الأنبياء، فهم يقعون فيه أحيانًا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم، وتكميله إياهم حينًا بعد حين.
٢ - أنه لا علاقةَ للصلاح بالوراثةِ والأنساب، بل يختلفُ ذلك باختلاف استعداد الأفراد، وما يحيط بهم من البيئة والآراء والمعتقدات، ولو كَانَ للوراثة تأثير كبيرٌ .. لكان جميع أولاد آدم سواء، ولكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين.
٣ - أنه تعالى يجزي الناسَ في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم لا بأنسابهم، ولا يحابِي أحدًا منهم لأجل الآباء والأجداد، وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين.
٤ - أنه من يغتر بنسبه، ولا يعمل ما يرضي ربَّه، ويزعم أنه أفضلُ من العلماء العاملين، والأولياءِ الصالحين فهو جاهل بكتاب ربِّه الذي لا يأتيه الباطل