جنونًا قط، أو جربنا عليه كذبًا قط، وقد علمتم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ما به من جنة، بل قد علمتم أنه من أرجح قريش عقلًا، وأوزنهم حلًا، وأحدهم ذهنًا، وأرصنهم رأيًا، وأصدقهم قولًا، وأزكاهم نفسًا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به، وإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، وإذا جاء بها تبين أنه نبي نذير مبين، صادق فيما جاء به، وقيل: تم الكلام عند قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}؛ أي: في السموات والأرض، فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له، ثم ابتدأ فقال:{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}، اهـ من "الخازن".
والمعنى (١): أي قل لهم يا محمد: إني أرشدكم أيها القوم، وأنصح لكم أن لا تبادروا بالتكذيب عنادًا واستكبارًا، بل اتئدوا وتفكروا مليًّا فيما دعوتكم إليه، وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصًا؛ إما واحدًا فواحدًا، وإما اثنين فاثنين، لعلكم تصلون إلى الحق، وتهتدون إلى قصد السبيل، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم، ورانت على قلوبكم، فلم تجعل للحق منفذًا.
وإنما طلب إليهم التفكر، وهم متفرقون اثنين اثنين، أو واحدًا فواحدًا؛ لأنّ في الازدحام تهويش الخاطر، والمنع من إطالة التفكير، وتخليط الكلام، وقلة الإنصاف، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب، وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة، ما يؤيد صدق هذا، ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدي بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح، فقال:{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} إذ ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم لا يتصدّى لادعائه إلا أحد رجلين؛ إما مجنون لا يبالي بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه، وإما نبيّ مؤيد من عند الله بالمجعزات الدالة على صدقه، وإنكم قد علمتم أن محمدًا أرجح الناس عقلًا، وأصدق الناس قولًا، وأزكاهم نفسًا، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي، فوجب عليكم أن تصدّقوه في دعوته، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك، وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم، مشهور لديهم، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم، وعلموا ما له من صفات الفضل