ثانيها: أن هذه الآية مختصة بالعرب، فإنهم كما اتسع رزقهم، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم، ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم، قدموا على النهب والغارة.
ثالثها: أن الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة .. عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية، وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه .. انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة، وكفى بحال قارون عبرة.
قال علماؤنا (١): أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح، وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبده، أنه لو بسط عليه الرزق .. قاده ذلك إلى الفساد، فيزوي عنه الدنيا مصلحة له، فليس ضيق الرزق هوانًا، ولا سعة الرزق فضيلة، وقد أعطى قومًا مع علمه بأنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل، لكانوا أقرب من الصلاح، وبالجملة فالأمر مفوض إلى مشيئته تعالى، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح، في كل فعل من أفعاله تعالى.
وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، قال:"إن من عبادي المؤمنين، من يسألني الباب من العبادة، وإني عليم أني لو أعطيته إياه لدخله العجب فأفسده، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه، إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده الفقر، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده الغنى، وإني لأدبر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإني عليم خبير"، ثم قال أنس: اللهم إني من عبادك المؤمنين، الذين لا يصلحهم إلا الغنى فلا تفقرني برحمتك.
{وَلَكِنْ يُنَزِّلُ} سبحانه وتعالى من الرزق لعباده {بِقَدَرٍ}؛ أي: بتقدير أزلي {مَا يَشَاءُ} أن ينزله مما تقتضيه مشيئته، وهو مفعول ينزل {إِنَّهُ} سبحانه {بِعِبَادِهِ}؛ أي: بأحوال عباده {خَبِيرٌ بَصِيرٌ}؛ أي: محيط بخفايا أمورهم، وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم، ما يليق بشأنهم،