وفقر {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما عملته أنفسهم من كفرانهم، بنعم الله تعالى وعصيانهم فيها، وذكر الأيدي؛ لأن أكثر الأعمال تباشر بها، فجعل كل عمل كالصادر بالأيدي على طريق التغليب. {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ}؛ أي: جنسه {كَفُورٌ}؛ أي: بليغ الكفر، ينسى النعمة بالكلية، وبذكر البلية ويستعظمها, ولا يتأمل سببها، بل يزعم أنها أصابته بغير استحقاق لها؛ أي: كثير الكفر لما أنعم به عليه من نعمه، غير شكور له عليها، وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص المجرمين، لغلبتهم فيما بين الأفراد، يعني: أنه حكم على الجنس بحال أغلب أفراده، للملابسة على المجاز العقلي، وتصدير الشرطية الأولى بإذا المفيدة للتحقق مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة، للتنبيه على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع، وأنه مقتضى الذات، كما أن تصدير الثانية بـ {إن} وإسناد الإصابة إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم، للإيذان بندرة وقوعها. وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة، والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم، كما سيأتي جميع ذلك في مبحث البلاغة.
والمعنى: أي وإنا إذا أغنينا ابن آدم، فأعطيناه من لدنا سعة في الرزق، أو في الصحة، أو في الأمن سر بما آتيناه، وإن أصابته فاقة، أو مرض بما أسلف من معصية ربه، جحد نعمتنا، وأيس من الخير، والإنسان من طبعه الجحد والكفران بالنعم حين الشدة.
والخلاصة: أن الإنسان إن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن ابتلي بمحنة يئس وقنط.
واعلم: أن نعمة الله تعالى، وإن كانت في الدنيا عظيمة، إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة، كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلذلك سمي الإنعام بها إذاقة فالإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به، ووقع في العجب والكبر، وظن أنه فاز بكل المنى، ودخل في قصر السعادات، ولذا ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة، وإلا لاختار الباقي على الفاني؛ لأن الفاني كالخزف مع أنه قليل، والباقي كالذهب مع أنه كثير.