وقال الفضيل بن عياض: إن الله ليتعهد عبده المؤمن بالبلاء، كما يتعهد الرجل أهله بالخير، ولولا أن في حلول الكوارث ونزول الحوادث تخفيفًا من الأوزار، وحطًا من الذنوب، ومحوًا من السيئات ما استطعنا عليهم صبرًا، ولولا أن في موافقة اللذات ومقارنة الشهوات أنواعًا من المكاره، وأصنافًا من الشدائد؛ ما وجدنا عنها صبرًا، ولكثر إسرعنا، وقيل عنها امتناعنا، لا جرم أن جميع خلال الخير وخصال البر وأحوال الطاعة وما يجعل الله في الإنسان من حسن الشيم وكرم الأخلاق وأسباب الديانة ودواعى الإيمان إنما هي كلها مرتبطة بالصبر، وراجعة إلى الصبر، ومحمولة على الصبر، وجارية مع الصبر كيفما تأملتها، وعلى أي حال تدبرتها، فإنه قطب تدور عليه جميع الأفعال المحمودة، لذا أمر الله سبحانه بالتواصي به؛ لأنه جماع صفلت الخير، ألا ترى أن الكرم صبر على مفارقة المال وعلى حبه، وأن العدل صبر على إمضاء الحكم وإن شق، وأن الصدق صبر، فربما خالطه شوائب تكره, وإن الحلم جامع لأشتات الصبر، فما منح الله الصبر عبدًا من عبيده، وهو يريد به شيئًا سوى الخير، وكل شيء في الوجود يولد صغيرًا، ثم يكبر إلا المصائب , فإنها تولد كبارًا، ثم تصغر وتضمحل، والصبر محمود الأثر شريف الغاية, ولو لم يكن فيه إلا أنه مظهر من مظاهر الكمال والرجولة اللائقة بكل إنسان .. لكفى , قال الشاعر:
قال بعض الحكماء: الجزع على الفائت آفة، وعلى المتوقع سخافة، فهو لا يخلو عمره من النكد، ولا يستفيق من التعذيب والكمد، وإذا استولى الجزع تضاعف الكرب, واشتد حتى أصبح لا يطاق، كما قال ابن الرومي:
ومن الحكم المشهورة: من أكثر الشكوى عظمت عليه البلوى، ومن كلام بعض العلماء: من كثر جزعه كثرت زلته وعظمت علته وبعد أمله وحبط عمله، وإذا كان الجزع يحبط الحسنات فإن الصبر يربي الحسنات، وهو من أجل القربات، قال الأشعث بن قيس دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -