والقول الثاني: أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع بعده للروح، ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان؛ لأن روحه هي هي.
والمعنى: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي، كما قال تعالى في إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)}، وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديثه آحاد، يتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منهما.
أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض: غلبة رُوحه، وسرد رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها.
{وَجَاعِل اَلَذِينَ أتَّبَعُوكَ}؛ أي: وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله، والذين صدَّقوا بنبوتك وادعوا محبتك كالنصارى {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ومكروا بك، وهم اليهود بالحجة والسيف والقهر والسلطان والاستعلاء والنصرة {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}؛ أي: إن هذه الفوقية مستمرة لهم ما دامت السموات والأرض، وبعدئذٍ يفعل بهم ما يشاء، وهذه الفوقية؛ إما فوقية دينية روحانية، وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق؛ والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية، وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم، وفي هذا إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة، وقد تحقق ذلك؛ فإن مُلك اليهود قد ذهب، لم تبق لهم قلعة ولا سلطان ولا شوكة في جميع الأرض، فلا يرى ملك يهودي، ولا بلد مستقل لهم، بل يكونون مقهورين أين ما كانوا بالذلة والمسكنة، وملك النصارى باقٍ قائم إلى قريب من قيام الساعة، فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.