لأهل الكتاب {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}؛ أي: اعترفوا لنا يا معشر أهل الكتاب بأنَّنا منقادون لأوامر الله، مُقِرُّون لله بالوحدانية، مخلصون لهُ بالعبادة دُونكم، فقد لزمتكم الحجة، فوجب عليكم أن تعترفوا بذلك، وبأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وفي قوله (١): {بَعْضُنَا بَعْضًا} إشارة لطيفة وهي أنَّ البعضية تنافي الإلهية؛ إذ هي تماثل في البشرية، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهًا لك، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوة في قولهم:{إنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا أشد استبعادًا فيه، وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى، يؤكد بعضها بعضًا؛ إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك، ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام.
والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة: عبدوا عيسى، وأشركوا بقولهم: ثالث ثلاثة، واتخذوا أحبارهم أربابًا في الطاعة في تحليل وتحريم، وفي السجود لهم.
وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا سفيان أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهو بإلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به مع دِحية الكلبي إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا غرابة في ذلك فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب، ومن المشركين.
أما أهل الكتاب: فلأن فيه هدمًا لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون؛ فلأن للإلف والعادة سلطانًا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات