المعنى تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسًا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل، قال الفخر الرازي: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان، صاروا موصوفين بهذه الصفة، فنسأل الله العفو والرحمة.
{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، أي: تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه، وإتحاد الكلمة. ولو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر وتعتصم بحبل الله وتتجه إلى غايةٍ واحدةٍ لما تفرقوا واختلفوا فيه. ولما تعددت مذاهبهم في أصوله وفروعه، وما قاتل بعضهم بعضًا: فلا تكونوا مثلهم؛ فيحل بكم ما حل بهم.
قالوا: وهذا الاختلاف المنهي عنه يختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية: فالاختلاف فيها جائزٌ. وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين، في أحكام الحوادث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اختلاف أمتي رحمة" ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اجتهد .. فأصاب؛ فله أجران، ومن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ".
وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". وزاد الحاكم في رواية:"كلها في النار إلّا ملة واحدة". وزاد أحمد في روايةٍ عن أنس "قيل يا رسول الله: من تلك الفرقة؟ قال: "الجماعة". وإنما قال:{جَاءَهُمُ}، ولم يقل: جاءتهم لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل عند وجود الفاصل، أو عند كون الفاعل مؤنثًا مجازيًّا كما هنا.
ثم ذكر سبحانه وتعالى عاقبة المختلفين وعظيم نكالهم فقال:{وَأُولَئِكَ} الذين تفرقوا واختلفوا في الدين {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الدنيا والآخرة؛ بسبب تفرقهم واختلافهم. وفيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والاختلاف. وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا، وخسران الآخرة، أما في الدنيا: فلأن بأسهم يكون بينهم شديدًا، فيشقى بعضهم ببعض، ويبتلون بالأمم التي تطمع في الضعفاء