بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه، يحمون ظهور المقاتلة بدفع المشركين بالنبل من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر، والظفر، فصبرتم على الضراء، ولم تصبروا على السراء.
وخلاصة القول: إنَّ الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل، والتنازع، وعصيان أمر قائدكم صلى الله عليه وسلم، فانتهى النصر لأن الله تعالى: إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة.
وفي قوله:{مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} تنبيهٌ على عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا من عصيانه، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام، وأذاقهم وبال أمرهم، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ} بجهاده {الدُّنْيَا}، أي: الغنيمة، وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب من أحد، وذهبوا وراء الغنيمة، وكان الرماة أولًا خمسين، ذهب منهم نيف على أربعين للنهب، وعصوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ} بجهاده {الْآخِرَةَ}؛ أي: ثوابها، وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، وهم نحو عشرة قتلوا جميعًا، والذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم ثلاثون رجلًا، وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين، فقاتل حتى قتل كأنس بن النضر، وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه.
وهاتان الجملتان معترضتان بين المعطوف عليه الذي هو جواب إذا المقدر، والمعطوف الذي هو قوله:{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}؛ أي: ابتلاكم بالهزيمة، ثم صرفكم، وردكم، وكفكم أيها المؤمنون عن الكفار، وألقى الهزيمة عليكم، وسلط الكفار عليكم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، {لِيَبْتَلِيَكُمْ}؛ أي: ليمتحن صبركم على المصائب، وثباتكم على الإيمان عندها.
والخلاصة: أنَّ الله سبحانه وتعالى صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حس واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك؛ أي: ليكون ذلك ابتلاءً واختبارًا