ترخص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأولٍ؛ إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعةٌ من هزيمتهم؛ فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنيمة فوات منفعة، ولا وقوعٌ في ضرر، ولكن هذا التأوُّل كان سببًا في كل ما جرى من المصائب التي من أجلها ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعًا في الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا.
وفي هذا إيماءٌ إلى سنة من سنن الله تعالى في أخلاق البشر، وأعمالهم وهي أن المصائب التي تعرض لهم في خاصة أنفسهم أو في شؤونهم العامة إنما هي آثارٌ طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها في النفس، وليست ملكةً ولا عادةً لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهي التي عناها سبحانه وتعالى بقوله:{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وإليها الإشارة بقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}.
فهذه المصائب والعقوبات سواء: أكانت في الدنيا أم في الآخرة آثارٌ طبيعيةٌ للأعمال السيئة، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد عفا الله سبحانه وتعالى، وسامح، وتجاوز عن تولي هؤلاء المتولين المنهزمين، وعقوبتهم عليه لتوبتهم واعتذارهم.
والمعنى: أنَّ ما صدر منهم من الذنوب في هذا اليوم، يستحق أن يعاقبوا عليه في الدنيا والآخرة، ولكن عفا الله عن عقوبتهم الأخروية، وجعل عقوبتهم في الدنيا تربية وتمحيصًا، وفي هذا دفعٌ لاستيلاء اليأس على نفوسهم، وتحسين لظنونهم {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لمن تاب يغفر الذنوب جميعًا صغيرها وكبيرها بعد التوبة والإعتذار {حَلِيمٌ} لا يعاجل عقوبة من عصاه، وهذه الجملة كالعلة للعفو عن هؤلاء المتولِّين، وقد كانوا أكثر المقاتلين، فإنه لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ إلا ثلاثة عشر أو أربعة عشر كما مر. وقد بالغ بعض المنهزمين في الفرار حتى إنَّ بعضهم لم يرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلّا بعد ثلاثة أيام،