وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة (١) فيه، وكفى بهذه الآية حجة عليهم، وهي آكد من قوله:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية.
{فَنَبَذُوُه}؛ أي: نبذ علماؤهم ذلك الكتابَ، أو الميثاقَ وطرحوه {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}؛ أي: خَلْفَ ظهورهم، فلم يعملوا به، ولم يبالوا به، ولم يهتموا بشأنه، وقد كان من الواجب عليهم أن يجعلوه نصب أعينهم، لا شيئًا ملقى مرميًّا وراء الظهور، لا ينظر إليه، ولا يفكر في أمره، فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئًا، ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار، ومنهم الذين يحرفونه عن مواضعه، ومنهم الذين لا يعلمونه إلا أماني يتمنونها، وقراءة يقرؤونها.
وإن هذا والله لينطبق على المسلمين اليوم أتمَ الانطباق، فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم، ونهجوا نهجهم حذو القذة بالقذة، فما بالهم عن التذكرة معرضين، وكتاب الله بين أيديهم شاهد عليهم، وهو يتلى بين ظهرانيهم، فإنهم مع حفظهم لكتابهم، وتلاوتهم إياه في كل مكان في الشوارع، والأسواق، ومجتمعات الأفراح والأحزان، تركوا تبيينه للناس والعمل به، ففقدوا هدايته وعميت عليهم عظاته، وزواجره وحكمه وأسراره، واعترفوا بأنهم انحرفوا عنه، وصار القابض على دينه بينهم كالقابض على الجمر، والضمير في قوله:{وَاَشتَرَوْا بِهِ} عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه، ونهوا عن كتمانه؛ أي: وأخذوا بكتمانه {ثَمَنًا قَلِيلًا} وعوضًا يسيرًا من حطام الدنيا، وأغراضها من المآكل والمشارب، والرشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم، وسفلتهم يعني أخذوا عوضًا منه فائدة دنيويةً حقيرة، فغبنوا في هذا البيع والشراء، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤسين من حطام الدنيا، ليتمتعوا بلذاتها الفانية، وشهواتها الفاسدة، وكانوا يؤولون الكتابَ، ويحرفونه، لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام، أو الرجاء فيهم، فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره، أو لإرضاء
(١) الهوادة: الرفق واللين والمحاباة، ومنه قوله: لأبعثن إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة؛ أي: إلى رجل يحابيك الرخصة. اهـ.