من موضع آخر بثمن أقلّ، وما نشأ هذا إلّا من خلابة التاجر وكياسته في تجارته، فيكون هذا من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي، فيكون حلالًا، والحكمة في إباحة ذلك الترغيب في التجارة؛ لشدة حاجة الناس إليها، والتنبيه إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة في اختيار الأشياء، والتدقيق في المعاملة حفظًا للأموال، حتى لا يذهب شيء منها بالباطل؛ أي: بدون منفعة تقابلها.
فإذا ما وجد في التجارة الربح الكثير بلا غشٍ ولا تغرير، بل بتراض من الطرفين .. لم يكن في هذا حرج، ولولا ذلك ما رغب أحد في التجارة، ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين، على شدة حاجة العمران إليها، وعدم الاستغناء عنها.
ولما كان المال عديل الروح، وقد نهينا عن إتلافه بالباطل، كنهينا عن إتلاف النفس؛ لكون أكثر إتلافهم لها بالمغامرات؛ لنهب الأموال، وما كان متصلًا بها، وربما أدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل. قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل، من قتل المؤمن بغير حق والردة والزنا بعد الإحصان، أو المعنى: لا يقتل بعضكم بعضًا، وإنما قال:{أَنْفُسَكُمْ} لأنهم أهل دين واحد، فهم كنفس واحدة، وللإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها، وقد جاء في الحديث:"المؤمنون كالنفس الواحدة"؛ ولأن قتل الإنسان لغيره يفضي إلى قتله قصاصًا أو ثأرًا، فكأنه قتل نفسه.
وبهذا علمنا القرآن: أن جناية الإنسان على غيره جناية على نفسه، وجناية على البشر جميعًا، لا على المتصلين به برابطة الدين أو الجنس أو السياسة، كما قال تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} كما أنه أرشدنا باحترام نفوس الناس بعدها كنفوسنا، إلى أن نحترم نفوسنا بالأولى، فلا يباح بحال أن يقتل أحد نفسه؛ ليستريح من الغم وشقاء الحياة، فمهما اشتدت المصائب بالمؤمن .. فعليه أن يصبر ويحتسب، ولا ييأس من الفرج الإلهي، ومن ثَمَّ لا يكثرُ بَخْعُ النفس والانتحار إلا حيث يقل الإيمان، ويفشو الكفر والإلحاد.