شمس وإن لم يرها الضرير، والعسل عسل وإن لم يجد طعمه الممرور، والمسك مسك وإن لم يدرك طيبه المأنوف. فالخيبة كلّ الخيبة؛ لمن عطش، والبحر زاخر، وبقي في الظلمة والبدر زاهر، وخبث والطيب حاضر، والحسرة كل الحسرة؛ لمن عصى وفسق، والقرآن ناه آمر، وفارق الرغبة والرهبة، والوعد متواتر والوعيد متظاهر، ولذلك قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ}.
والمتقين: جمع متّق، والمتقي: اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية، وهي فرط الصيانة، قال البغوي: هو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحاجز بين الشيئين، ومنه يقال: اتقى بترسه؛ أي: جعله حاجزا بين نفسه وبين من يقصده. وفي الحديث: كنّا إذا احمرّ البأس، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزا بيننا وبين العدوّ، فكأنّ المتقي يجعل امتثال أمر الله، والاجتناب عمّا نهاه حاجزا بينه وبين العذاب. والتقوى في عرف الشرع (١): عبارة عن كمال التوقّي عمّا ضرّه في الآخرة، وله ثلاث مراتب:
الأولى: التوقّي عن العذاب المخلّد؛ بالتبرّي من الكفر، وعليه قوله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى}.
والثانية: التجنّب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف بالتقوى في الشرع، وهو المعني بقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا}.
والثالثة: أن يتنزّه عما يشغل سرّه عن الحقّ عز وجلّ، ويتبتل إليه بكليته، وهو التقوى الحقيقية المأمور بها في قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ}. وأقصى مراتب هذا النوع من التقوى: ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث جمعوا رياستي النبوة والولاية، وما عاقهم التعلّق بعالم الأشباح، عن العروج إلى عالم الأرواح، ولم تصدّهم الملابسة بمصالح الخلق، عن الاستغراق في شؤون الحقّ؛ لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيّدة