للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

كذبهم المتجدّد المستمر الذي هو قولهم: {آمَنَّا ...} إلخ. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أنّ العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم نظرا إلى ظاهر العبارة المتخيّلة، لانفراده بالسببية مع إحاطة علم السامع بأنّ لحوق العذاب بهم من جهات شتّى، وأنّ الاقتصار عليه للإشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه. وأمّا ما روي: أنّ إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد به: التعريض، لكن لمّا شابه الكذب في صورته سمّي به، وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، وقوله: (هذه أختي) كما هو مذكور في محلّه.

وحاصل معنى الآية: أنّ الله سبحانه جعل (١) العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى، كالكفر وغيره من أعمال السوء؛ للتحذير منه، وبيان فظاعته، وعظم جرمه؛ وللأشعار بأنّ الكفر من محتوياته، وإليه ينتهي في حدوده وغاياته، ومن ثم حذر منه القرآن أتمّ التحذير. فما فشا في أمة إلّا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، فهو مصدر كل رذيلة ومنشأ كلّ كبيرة. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنّه قال: «إياكم والكذب، فإنّه مجانب للإيمان»؛ يعني: أنّ الإيمان في جانب والكذب في جانب آخر منه، مقابل له، وهذا كناية عن كمال البعد بينهما.

وفي الحديث (٢): «ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار». كلّ الكذب مكتوب كذبا لا محالة، إلّا أن يكذب الرجل في الحرب، فإنّ الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء، فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته ليرضيها، مثل أن يقول: (لا أحد أحبّ إليّ منك)، وكذا من جانب المرأة. فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها: ما أدّاها إذا ارتبط بمقصود صحيح له، أو لغيره، لكن هذا في حقّ الغير، وأمّا في حقّ نفسه، فالصدق أولى وإن لزم الضرر.


(١) المراغي.
(٢) روح البيان.